الثلاثاء، يوليو ٢١، ٢٠٠٩

مبدأ (إيصال أصحاب الحركة الإصلاحية إلى الكراسي)!

إن من معايير ترشيد الصحوة الإسلامية، أن لا تكون هذه الحركة سلبية محضة؛ تسرع إلى مجابهة الحكومات و الطاقات ذات القوى و الوسائل، و تحدث لها مشكلات و عراقيل في الخطوة الأولى، فتضيع بذلك كثيرا من طاقاتها و أوقاتها، و تنشئ لها أعداء، و تجاهد في غير جهاد و في غير عدو...

بل يجب أن تكون إيجابية أكثر منها سلبية...

و يجب أن تفضل العمل بمبدأ إيصال الإيمان إلى أصحاب الكراسي و حملهم راية الإسلام و تطبيق النظام الإسلامي بأنفسهم، على مبدأ إيصال أصحاب الإيمان و أعضاء حركة إصلاحية خاصة إلى الكراسي، و احتكار عمل تطبيق النظام الإسلامي و قلب أوضاع المجتمع؛ لأفراد جماعة خاصة و دعاة مخصوصين...

***

و هذا مثال رائع من تاريخ الإصلاح و التجديد في الإسلام:

حركة الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي:

هو أحمد بن عبد الأحد بن زين العابدين السرهندي يتصل نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ولد ليلة الجمعة 14 شوال 971هـ - 1563م بمدينة سرهند ببلاد الهند، وسماه والده «شيخ أحمد» نشأ الإمام السرهندي في بيئة متضاربة فكريا، متعارضة عقديا، مضطربة خلقيا، فقد ترعرع في عهد الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر، من أباطرة آل تيمور المغوليين الذي انحرف عن الإسلام والذي سيطرت عليه فكرة حلول الألف الثاني من عمر الإسلام، وقد تأثر بدعوة بعض الفلاسفة المارقين عن الإسلام بقولهم إن عمر الإسلام الطبيعي ألف عام، أما وقد انقطعت، وبدأ الألف الثاني فإن الدنيا في حاجة إلى عهد جديد تتابع فيه مسيرتها، كما أنها في حاجة ماسة إلى دين جديد يمارس الناس من خلاله حياتهم الدينية، وتشريع جديد ينظم شئونهم ويدبر معاشهم، ويستغنون به عن الدين الذي سلف وذهابه بذهاب ألف سنة من عمره، واستحوذت فكرة الدين الجديد على نفس الملك أكبر، وشكل لجانًا لنشر الدين الجديد ونشرها في نواحي الهند، لقد كان ذلك الدين يحتوي على الشرك بكل أنواعه وأصنافه، فدخلت عبادة الشمس والكواكب بدلا من التوحيد الخالص، وأبدلت عقيدة البعث والنشور بعقيدة التناسخ، وأحل الدين الجديد الربا والقمار، والخمر والخنزير، وأباح الزنا وصدر قانون بتنظيمه، وحرم ذبح البقر، وحرم الحجاب.. إلخ.

وانتشرت النظريات الفلسفية التي كانت تؤمن بأن العقل وحده قادر على إدراك الحقائق الحاضرة منها، والغائبة، حتى استغنوا بالعقل عن الرسل والرسالات وكل ما يتعلق بهما.

وفي خضم هذه الاضطرابات وتلك الفوضى كان الإمام السرهندي قد قارب الثلاثين من عمره، وكان قد تسلح بالعلوم الدينية، وأصول أهل السنة وقد حباه الله -عز وجل- عقلاً راجحًا، وفكرًا ثاقبًا، وذوقًا مرهفًا، وقلبًا واعيًا، فاستعمل كل مواهبه لخدمة الإسلام والمسلمين ووقف متحديًا كل هذه الأفكار الضالة كاشفًا عورات هذه السخافات والبدع والخرافات، بل عمل حتى وصل إلى بلاط الملك أكبر في عهد ابنه وتغير الدين الباطل الذي كانت عليه الدولة إلى دين الإسلام الصحيح.

منهج الإمام السرهندي للوصول إلى مرحلة التمكين:

1- اهتم بتعليم وتربية مجموعات هائلة من أفراد الأمة وأعدهم إعدادا تربويا عمليا، دعويا رفيع المستوى ثم أرسلهم إلى القرى والمدن لدعوة الناس.

2- اهتم بنقد فكر الفلاسفة المنحرف، والصوفية الباطلة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد، وبين الطريق الصحيح لمعرفة الحق، والوصول اليقيني إلى معرفة الإله الواحد من خلال القرآن ومنهج أهل السنة والجماعة.

3- حارب كل أنواع الشرك ومن أقواله في ذلك: «إن تعظيم مظاهر الشرك وأعياد الجاهلية من أعظم أنواع الشرك بالله - عز وجل - وإن من يعتقد بصحة دينين، وصلاحيتهما في وقت واحد، فهو مشرك، وإن من يعمل بأحكام الإسلام وأعمال الكفر والشرك فهو مشرك، ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة من الشرك ومحادته ومعاداته، وإن التوحيد هو الاشمئزاز والتبرم من كل شائبة من شوائب الشرك».

4- اهتم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، وخلود رسالة محمد صلى الله عليه و سلم ودعم وحدة المسلمين وإعادتهم إلى حظيرة الإسلام، وكان سببا في حماية المسلمين في بلاد الهند من ردة محققة.

5- قاوم المد الشيعي الذي اخترق البلاط الملكي في عهد نور الدين جهانكير بن الملك أكبر ورفع راية أهل السنة جهارا نهارا، بل استطاع أن يصل إلى معسكر الملك وبلاطه بواسطة تلميذه بديع الدين السهارنبوري.

6- اهتم بالأمراء الذين ظهر منهم تدين، وفيهم شهامة وحب للخير، فهذا الأمير خان جهان وكان الملك جهانكير يحبه حبا جما، ويعتمد عليه في كثير من شئون الدولة كتب إليه السرهندي يحثه على نصرة دين الله فيقول له: «لو جمعتم بين ما تتبوأون من منصب كبير، وبين العمل على الشريعة الإسلامية، لأديتم أمانة الأنبياء - عليهم الصلوات والتسليمات- وأوضحتم الدين المتين وأضأتموه وعممتموه، ولو جهدنا - نحن الفقراء - أنفسنا أعوامًا طوالاً لما لحقنا بغبار أمثالكم من صقور الإسلام.

ألا نفوس أبيَّات لهم همم ... أما على الخير أنصار وأعوان

وكانت لرسائله أثر طيب في التأثير على القادة والأمراء والتفافهم حول القرآن والسنة.

7- استطاع الإمام السرهندي بعد جهاد مرير، وبلاء عظيم أن يصل إلى الملك نفسه وأصبح من حاشيته ولم يترك جلساء السوء ينفردون به بل عمل على دعوة قواد الجيش وحاشية الملك إلى الإسلام الصحيح، وتأثروا بالإمام السرهندي لما رأوا فيه من حسن الخلق وغزارة العلم، وإخلاص للدين، و زهد و ورع متين، وحكمة في الدعوة إلى الله، ولقد تعاون أولئك القادة مع الإمام السرهندي من أجل التمكين لدين الله وما هي إلا فترة وجيزة حتى أزيل دين الملك أكبر، الذي فرضه على الرعية، وأعيد للإسلام مكانته الرفيعة.

لقد تأثر الملك جهانكير بمبادئ الإمام السرهندي وأقواله، فاستبدل بالإلحاد الإيمان، وأحل الإسلام محل الزندقة، وجاهر بذلك على رءوس الملأ من قومه.

لقد أظهر الملك شعائر الإسلام ورفع أحكامه، وأعز أهله وبكى كثيرا على سابق تفريطه.

إن الإمام السرهندي مدرسة مهمة في فقه التمكين وله منهجية رائعة في أساليب الدعوة حققت نتائج عظيمة للمسلمين في الهند.

إن الاقتراب من رجال الدولة و الملوك و الأمراء من أجل دعوتهم إلى الإسلام و تمكين دينه قام به العلماء و الدعاة -من أمثال الإمام السرهندي- و حقق نتائج طيبة في نصرة دين الله.

 _________________

المرجع: "ترشيد الصحوة الإسلامية" من سلسلة بحوث إسلامية هامة 34 - للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي.

المرجع: "فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم: أنواعه - شروطه - أسبابه - مراحله وأهدافه" - للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي.