الأحد، مايو ١٧، ٢٠٠٩

جماعة الإخوان المسلمين

السؤال

جماعة الإخوان المسلمين، هل هي جماعة مخالفة لسـنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ هل المنتمون إليها (شيوخاً وأتباعاً) من المبتدعة، كما يصفهم بعض الشباب المسلم، وبعض طلبة العلم أيضاً؟ هل ينبغي البراءة منهم، ومن منهجهم؟ هل هم من أهل السنة والجماعة؟ نرجوا تبيان ما لهم وما عليهم من منطلق شرعي عقدي، وبيان دورهم في حمل راية الدعوة إلى الله خلال العقود الماضية إن كان لهم دور...

الجواب

جماعة الإخوان، نشأت في مصر، على يد الشيخ الداعية حسن بن عبد الرحمن البنّا الساعاتي، ابن الشيخ المحدث صاحب الفتح الرباني، و ذلك سنة (1327هـ - 1928م). و انتشرت في أقاليم مصر بسرعة هائلة، و منها انتقلت إلى أصقاع العالم الإسلامي. و للشيخ حسن البنا مؤلفات تعبر - غالباً - عن اتجاه الجماعة، أهمها: (رسائل الإمام الشهيد حسن البنا)، و له أيضاً (مذكرات الدعوة و الداعية). و قد اغتيل الشيخ في ظروف غامضة سنة (1948م).

وتعرضت الجماعة لمحنٍ قاسية، و زُج بالآلاف من قياداتها و أفرادها، في غياهب السجون، و سِيق العديد منهم إلى مقاصل الإعدام، سنة (1956م)، ثم سنة (1965م)...

و قد تأثر بها كثير من العلماء، و الدعاة في مصر، و غيرها، و كان للجماعة جهود مشكورة في تربية الشباب، و حمايتهم من لوثات التغريب و الفتنة، و إحياء هموم الأمة، و مواجهة الاستعمار البريطاني لمصر، ثم مواجهة اليهود في فلسطين.

و يأخذ البعض على الجماعة:

1- عدم انضباطية منهجها العقدي و الفكري. و الشيخ حسن البنا -رحمه الله- و إن كان ألف كتابا ًسماه: (العقائد)، و فيه خير كثير، إلا أنه لم يحرر بعض المسائل تحريرا ًجيداً، على طريقة أهل السنة، و في الجملة يمكن القول: بأن الجماعة تيار حركي فاعل أكثر منها مدرسة فكرية محددة الملامح مضبوطة المعالم. و لا يمكن الحكم على أفرادها بأنهم مبتدعة، إلا من عُرف عنه أنه يقولُ ببدعة، و ينتحلها. و مصادرة إنجازات الناس ومكاسبهم -بسبب خطأ يقعون فيه- ليست من الأدب، و من الذي يستطيع في هذه المرحلة التي نعيشها التنكر لجهاد منظمة حماس، أو غيرها!؟

2- و قد شاركت بعض كوادر الإخوان في المشهد السياسي، كما في: الأردن، و الكويت، و اليمن، و تركيا، و هذه مسألة اجتهاد قال بها جمع من العلماء المعاصرين؛ كالشيخ رشيد رضا، و الشيخ ابن باز، و الشيخ ابن عثيمين، و الشيخ عبد الكريم زيدان، و جمع غير قليل من الفقهاء المعاصرين، و خالف آخرون و منعوا، و هذه ليست من مفاصل المسائل و قطعياتها التي لا تحتمل المخالفة.

و أتمنى على الإخوان -وفقهم الله لكل خير-:

1- أن يقرروا كتاباً سهلا ً، مختصراً في العقائد على عموم الأتباع؛ و ليكن مما كتبه بعض فضلائهم، ككتب العقيدة للشيخ عمر الأشقر -حفظه الله-، أو كتاب (الإيمان) للشيخ محمد نعيم ياسين-رحمه الله-، أو كتاب (العقيدة) للشيخ عبد الله عزام -رحمه الله-.

2- و أن يكون هناك عناية شديدة، بحماية الأفراد من التعصب الحزبي، الذي يكاد أن يكون من لوازم الانتماء للجماعات إلا ما رحم ربي، و الذي حلّ محل التعصب المذهبي، وأصبح عائقاً جدياً أمام وحدة العاملين للإسلام.وأن يعتبروا الفرح بالنقد الهادف البناء - من النصحاء المشفقين- من علامات النضج، فيكون هناك متخصصون في مراجعة المسيرة، و تصحيح الأخطاء، و استدراك الزلات، و سماع وجهات النظر، من داخل الجماعة و خارجها؛ فقد يستطيع من هو خارج الصورة أن يرى ما لا يراه من كان في ضمنها، و رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا. و كما أن الجماعة هي أولى الجماعات الإسلامية من حيث الوجود التاريخي، و أوسعها من الناحية الجغرافية، فكذلك: ينبغي أن تكون سباقةً في مراجعة المناهج و المواقف و الاجتهادات، و إحياء المنهج النبوي في هذا الشأن.

 _________________

المرجع: "سؤال رقم4839  بعنوان جماعة الإخوان" فتوى على موقع الإسلام اليوم - للشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة.

 

الخميس، مايو ١٤، ٢٠٠٩

هل كل ما تسأل عنه تعمل به؟

كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى؛ فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول، والدليل على ذلك أمور:

أحدها: أن كل علم لا يُفيد عملا؛ فليس في الشرع ما يدلُّ على استحسانه، و لو كان له غاية أخرى شرعية؛ لكان مستحسنا شرعا، و لو كان مستحسنا شرعا؛ لبحث عنه الأولون من الصحابة و التابعين، و ذلك غير موجود، فما يلزم عنه كذلك.

والثاني: أن الشرع إنما جاء بالتعبُّد، و هو المقصود من بعثة الأنبياء -عليهم السلام-...

كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [النساء: 1].

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1-2].

{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تُحصى، كلها دال على أن المقصود التعبد لله، وإنما أُتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده، سبحانه لا شريك له...

ولذلك قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].

وقال: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14].

وقال: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].

ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد، لا بد أن أُعقبت بطلب التعبد لله وحده، أو جُعل مقدمة لها، بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها: ألا تُذكر إلا كذلك؛ وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم، والآيات في هذا المعنى لا تُحصى.

والثالث: ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل، وإلا؛ فالعلم عارية وغير منتفع به...

فقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ...} إلى أن قال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الآية [الزمر: 9].

وقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 44].

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاهُ؛ فيجتمع أهل النار عليه؛ فيقولون: أي فلان! ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" (البخاري ومسلم).

وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خِصال"، وذكر فيها: "وعن علمه، ماذا عمل فيه؟" (الترمذي و غيره، و هو صحيح).

وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثلاثة الذين هم أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة، قال فيه: "ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعَمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلَّمت فيك العلم وعلَّمته، وقرأتُ القرآن. قال: كذبت، ولكن ليقال: فلان قارئ؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار" (مسلم والترمذي والنسائي).

وكان -عليه السلام- يستعيذ من علم لا ينفع (مسلم و الترمذي والنسائي).

وقال معاذ بن جبل-رضي الله عنه-: "اعلموا ما شئتم أن تعلموا؛ فلن يأجُركم الله بعلمه حتى تعملوا" (أخرجه ابن المبارك ومن طريقه أبو داود، وأبو نعيم وابن عبد البر والدارمي وأحمد بإسناد رجاله ثقات إلى معاذ موقوفا، وفيه انقطاع، يزيد بن جابر لم يدرك معاذا).

وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-: "إنما أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: أَعَلِمْتَ أم جَهِلْتَ؟ فأقول: علمت. فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتسألني الآمرة: هل ائتمرت؟ والزاجرة: هل ازدجرت؟ فأعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسمع" (أحمد و غيره، و هو صحيح).

وكان رجل يسأل أبا الدرداء-رضي الله عنه- فقال له: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حُجَّة الله عليك؟ (ذكره ابن عبد البر).

وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال: "أدركت الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل" (أخرجه ابن عبد البر عن ابن وهب؛ قال: "قال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم ليكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم". قال ابن وهب: "يريد المسائل"، قال: "وقال مالك: إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا، ولم يكن هذا الكلام في الناس اليوم")...

وقال سفيان الثوري: "إنما يُتعلَّم العلم ليُتَّقى به الله، وإنما فُضِّل العلم على غيره؛ لأنه يُتقى الله به" (أخرجه ابن عبد البر وأبو نعيم والبيهقي و غيرهم بإسناد حسن).

والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تُحصى، وكل ذلك يُحقق أن العلم وسيلة من الوسائل، ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعي، وإنما هو وسيلة إلى العمل، وكل ما ورد في فضل العلم؛ فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به.

__________________

المرجع: "الموافقات" - للإمام إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت: 790هـ( تحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان. (باختصار يسير).

الجمعة، مايو ٠٨، ٢٠٠٩

المفاهيم العقدية و تطبيق مقتضياتها في أرض الواقع...

الحمد لله الواحد القهار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وصحبه الأخيار.

أما بعد:

فلقد أظهرت أحداث غزة المؤمنة، غزة الصابرة، كثيراً من المعاني والمفاهيم العقدية التي تكلم عنها العلماء قديماً وحديثاً، فكانت ابتلاءً وامتحاناً للمسلمين وتمحيصاً لهم: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت:11]، فأظهر الله حقائق الإيمان وأثرها على أرض الواقع وهذا مما يزيد المؤمن يقيناً ويزيد أهل هذه المعاني ثباتاً على دينهم وجهادهم.

فما حصل في غزة ليس شراً محضاً بل فيه خيرٌ كثير يعرفه من نوَّر الله بصيرته بالإيمان، قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾ [البقرة:216]

ومن تابع الأحداثَ، ومجرياتِ الأمور، وشاهدَ ما حصل لأهل غزة، وما تبع ذلك من تصريحاتٍ، وبياناتٍ، وفتاوى، ومظاهراتٍ، ظهر له جلياً الفرقُ بين دراسة مسائل الإيمان والعقيدة نظرياً في المساجد والفصول الدراسية، وبين تطبيق مقتضياتها في ميادين الجهاد وعلى أرض الواقع، حيث تُمحَّص القَناعات، ويظهر أثرُ اليقين على النفوس، ويثبِّتُ الله من أراد به خيراً من أهل الصدق وحسن التوكل عليه، ويوفقه للعمل بمقتضيات الإيمان والتقوى، و أسُّ هذا الأمر: المعتقد الصحيح الذي من تمسَّك به علماً واستدلالاً كان أقرب للتحقق به عملاً، فجمع الله لأهل الثغر بين الفضيلتين، ومن هذه المعاني التي تجلت بوضوح سواءً لأهالي غزة أو لغيرهم من المؤمنين الصادقين والتي دلت على ثباتهم ورسوخ عقيدتهم: الإيمانُ بالقضاء والقدر، وصدقُ اللجوء إلى الله عز وجل والتوكلُ عليه، ومعاني الأخوة الإيمانية، وحُسْنُ الظن بالله، واليقينُ بموعودِ الله ونصره، وفي المقابل: هناك قوم سقطوا في الفتنة وخدشوا توحيدهم أو نقضوا إيمانهم بمظاهرة الكافرين على المسلمين وإخلالهم بعقيدة الولاء والبراء وسوء ظنهم بالله تعالى.

ومن هنا كان لابد من إيضاح هذه المعاني لأن أحداث غزة باتت امتحاناً عملياً اجتازه من وفقه الله وسقط فيه من لم يرد الله به خيراً ﴿ألا في الفتنة سقطوا﴾ [التوبة:49]

أمّا الإيمانُ بقضاءِ الله وقدرِه: فهو ركنٌ من أركان الإيمان، كما في الحديث الصحيح: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) فلا يستقيم إيمانُ العبد إلا به، وقد تجلَّى هذا واضحاً في أحداث غزة، حيث شاهد كثيرٌ من الناس على الشاشات الإعلامية مرات عديدة من فقدوا جميع أهليهم وذويهم أو أكثرهم والطائرات فوق رؤوسهم وهم يرددون: الحمد لله، الحمد لله على قدر الله. ومنهم من يقول: نحسبهم شهداء عند الله، وغيرها من العبارات الإيمانية، فلله درُّهم!. أمَّا المجاهدون فقد ضربوا أروع المثل بإيمانهم بقضاء الله وقدره، صبرٌ بلا جزع، ورضىً بلا هلع، ونحن بدورنا علينا أن نؤمن بأن ما يصيب أهل غزة اليوم من قتلٍ وتدميرٍ وجرحٍ وألمٍ وجوعٍ هو قضاء الله في عباده المؤمنين، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة:51) ، وأن تكالب الأعداء من اليهود والنصارى والمنافقين على إخواننا المسلمين في غزة وحصارهم وقتلهم إنما هو من قدر الله، وقدر الله نافذ وهو موافق لحكمته ولا يكون قدر الله إلا خيراً. ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد:4]

وأمَّا صدق اللجوء إلى الله والتوكل عليه: فمن فوائد هذه الأحداث انقطاع حبل التوكّل بين المجاهدين في غزة وبين الخلق أجمعين، فالله لا يرضى أن يصرف عبدُه قلبَه إلى غيره، وقد رأينا هذا وسمعناه مراراً في تصريحاتِ عددٍ من مسؤوليهم وقادتهم، ونحسبهم –والله حسيبهم- من الصادقين والمتوكلين على ربهم وقد أخذوا بكافة الأسباب الممكنة عسكرياً وسياسياً، ثم فوضوا أمرهم إلى الله ولم يركنوا لسواه مع علمهم بأن كبرى دول العالم ضدَّهم، يخوفونهم ويهددونهم، والله تعالى يقول في كتابه ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر:36)، وبهذا يكونون قد ضربوا للعالم أروع معاني التوكل على الله، وقد فطن لهذا المعنى كثيرٌ من علماء المسلمين ودعاتهم الذين سعوا لتثبيت إخوانهم في بياناتهم وخطاباتهم عندما أكَّدوا على هذا المعنى ونصحوا إخوانهم في غزة بأن لا يلجأوا إلا إلى الله، ولا يؤمِّلوا خيراً في مجلس الأمن، ولا الأمم المتحدة، ولا منظمات حقوق الإنسان ولا يستجدوا فلاناً أوفلاناً، فكلُّ هؤلاء لا يُغنون عنهم من الله شيئاً، فالتوكُّلُ يكون عليه وحده دون سواه، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة (التوبة): ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾: (يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بِعَددهم ولا بِعُددهم، ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولّوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنزل الله نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ... ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قلّ الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)أ.هـ، وفي انقطاع ما بينهم وبين الخلق كما هو حالهم الآن ما يفضي إلى مزيدِ تعلُّقٍ بالله عز وجل، مع يأسهم مما في أيدي الناس وهو مُؤْذِنٌ إن شاء الله بعاجل نصر الله.

وفي المقابل: كان هذا الأمر امتحاناً وفتنة سقط فيها كثيرٌ من الزعماء والعلمانيين والإعلاميين، كما أوجدت خَدْشاً في بعض البيانات والخطابات والتحركات التي كان من ضمنها مناشدة هذه المنظمات بوضع حدٍّ للحرب وكأنه خافٍ عليهم قول الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:120]

أمَّا الأخوة الإيمانية والولاء للمؤمنين: فقد ظهرت أسمى معانيها في أحداث غزة ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، فما أن اندلعت الحرب حتى هُرِعَ المسلمون من جميع أقطار المعمورة - عرباً وعجماً- يجأرون إلى الله تعالى بالدعاء في صلاتهم إحياءً لسنة قنوت النازلة، ثم تتابعت البيانات والفتاوى التي تدعو لنصرة إخواننا في غزة، وخرج كثيرٌ من الناس بشتى أجناسهم وأعمارهم وطبقاتهم إلى الشوارع يطالبون بإيقاف الحرب، بل طالب كثيرٌ منهم بفتح باب الجهاد ليجاهدوا في سبيل الله معهم، لكن حيل بينهم وبين ذلك! فلله الأمر من قبلُ ومن بعد، كما أنه ما أن أعلنت بعضُ الجهات المختصة بجمع التبرعات لمنكوبي غزة حتى قام كثيرٌ من الناس رجالاً ونساءً بالإنفاق في سبيل الله، وكلُّ ذلك دليلٌ على الأخوةِ الإيمانية وولائهم للمؤمنين.

وفي المقابل: سقط آخرون وأصبحوا يتحدثون عن أخطاء حماس وأنها سبب كل ما يحدث، بل إن أحدهم كتب في إحدى الصحف العربية: اضربيهم إسرائيل ولا تبقي منهم أحداً!! فأين هذا من الأخوة الإيمانية؟!

ومما يؤسف له أن بعض أهل العلم والفضل لا تجد لهم أثراً رغم كل هذه الأحداث العصيبة، وكأن الأمر لا يعنيهم! وهم من أفقه الناس –نظرياً- بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه في (صحيح البخاري) مرفوعاً: (وذِمَّة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم)

وأمَّا عقيدة البراء من الكافرين وعدم مظاهرتهم على المسلمين: فهذه أصبحت من النظريات، ولا علاقة لها بالواقع مع أن الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51] وقد عدَّ علماءُ الإسلام مظاهرة المشركين على المسلمين من نواقض الإسلام.

ألا فليحذر كلُّ من أعان اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار على قتال المسلمين من مقت الجبَّار وغضبه وعقابه.

وأما حسن الظن بالله: فينبغي للمسلم أن لا يسيء الظن بالله تعالى فمن ظنَّ أنَّ الله ينصر اليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار على المسلمين نصراً دائماً، أو أن الحق سيظل مغلوباً من قبل الباطل، أو أن ما يجري لا حكمة فيه، أو أنه يحصل عبثاً، فقد أساء الظنَّ بالله ، والله تعالى يقول محذراً من سوء الظن به ﴿يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران:154] فهذه الأمور المؤلمة التي نراها إنما تحدث لحكمة يعلمها الله، فَالله تعالى مَا قدَّرها سُدًى، ولا أنشأها عبثاً، ولا خلقها باطلاً، فهذا من حسن الظن بالله تعالى.

أما اليقين بموعود الله ونصره: فهذا من مقتضيات الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم فقد جاء عن أبى هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِىُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِىٌّ خَلْفِى فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ. إِلاَّ الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ) فمن مقتضيات الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم تصديق هذا الوعد بأن نهاية اليهود على أيدي المسلمين، فابشروا أيها المسلمون، وأمِّلوا، وأحسنوا الظنَّ بربكم، فالنصر آت، وانصروا الله ينصركم ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:40]

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

__________________

المرجع: "المفاهيم العقدية في أحداث غزة بين الثبات والضياع" مقال على موقع الدرر السنية - للشيخ علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف.