الخميس، مايو ١٩، ٢٠١١

بنيان الإسلاميين المرصوص - عهد ما بعد الثورة - جـ1...

..دقيقة 12..

واحد بيجي يستنكر على الإخوان إن هم قالوا إن الموسيقى حلال، طيب ما دي مسألة مُختلف فيها، أنا أعتقد ما ذهب إليه الأئمة الأربعة، أن الموسيقى محرمة، ودليلي على هذا الحديث الثابت في صحيح البخاري من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، لكن نحن تربينا كسلفيين في ظل مدرسة الرأي الواحد...في ظل مدرسة الرأي الواحد...

أنا بفضل الله عز وجل تفطنت لهذا الأمر، أنا التزمت سنة 1977، تفطنت لهذا الأمر في مرحلة مبكرة سنة 1980، لما جاء الشيخ مقبل بن هادي رحمه الله إلى القاهرة –أسأل الله أن يرحمه ويرحم زوجته رحمة واسعة- وبالمناسبة واحد باعت يسألني الشيخ رحمه الله ألف رسالة بعنوان "إسكات الكلب العاوي..." إنتو عارفين بقية الاسم وأنا لا أحب أن أذكر الاسم وأنا لا أوافق على هذا، الكل يؤخذ من قوله ويرد، أنا لا أوافق على هذا، وإن كنت أنكر على الشيخ الذي تعرض له الشيخ مقبل أشياء ومنها أشياء طوام لكن لا نقول "إسكات الكلب العاوي"... لا نقول "إسكات الكلب العاوي" فالمسائل المختلف فيها لا إنكار فيها ولكن فيها التبيين... فيها التبيين...

الإخوان من ناحية أخرى جعلونا نُـنـَـظّـر وهم خرجوا إلى المجتمع وأنشؤوا الجامعات الطبية الإسلامية التي خدمت الناس ووفرت عليهم فعلا، يعني هم لهم تأثير مباشر في حياة الناس.. تأثير مباشر.. لما حصل الزلزال مين اللي كان حاضر؟ السلفيين؟!! الإخوان... لحد ما صدر قرار وزاري بإن ممنوع إن الإخوان يعملوا أي حاجة وحاصروهم في أماكنهم، فأنا أريد أن أقول يعني لا تقل هم لا ينكرون على الناس ونحن ننكر على الناس، إنت بتقوم برضه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يبنغي؟ ولا واحد فينا بيقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى، الأولى يا إخواننا إن احنا كل ما الإنسان تتسع مداركه ويتعلم قواعد الشرع سيستطيع أن يسوق للناس المعاذير... سيستطيع أن يسوق للناس المعاذير...

............

..دقيقة 16..

ربنا سبحانه وتعالى يعني شاء أن يكون المسلمون... أن تتنوع توجهاتهم... يعني بتاع التبليغ مثلا يجيب لك الراجل المسجد وانت تعلمه -كسلفي-، والإخوان مثلا يقومون بالتشغيل والتوظيف وانت داعم... فيه تكامل بين الجميع... مافيش مانع، لكن أخشى ما أخشاه أن الخلافات التي وقعت في المساجد تنتقل إلى البرلمان إلى مجلس الشعب وهذه مصيبة ستضحك علينا العالم بأسره... ستضحك علينا العالم بأسره... فأنا حتى في مثل هذا (ردا على سؤال إنشاء حزب سلفي) ينبغي أن أدخل للدعم والترشيد، والإخوان دول يا إخواننا ناس لهم قلوب... ناس لهم قلوب...لماذا لا تمارس واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معهم؟ أنا شخصيا لما أرى شيئا عليهم أتكلم فيه وكلامي بفضل الله عز وجل يأتي بنتيجة، مش معنى كدا إن أنا أستاذ عليهم.. لأ.. مش معنى كدا إني بأوجه جماعة الإخوان.. لأ.. بعض الإخوان من أصدقائي لما بأجد فيه شيئا، وبعض الإخوان من أصدقائي أشعر أنه أكثر تدينا مني، المسألة مش بالعنواين، غاية ما في الأمر أن الرجل رأى أن نصرة الدين لا بد أن تكون من خلال كيان أو جماعة، وذكرت في حينه لما اختلفنا في مسألة الجماعات –وأنا لا أنتمي إلى أي جماعة- ذكرت في حينها أن هذه المسألة ليست من الأمور القطعية... دي مسائل يدخل فيها الاجتهاد والنظر، يدخل فيها الاجتهاد والنظر ... لأن البعض أراد أن يجعل الانتماء لأي جماعة من الجماعات تهمة خطيرة جدا: ويقول لك الحزبية ومش الحزبية، وعارفين الكلام دا تردد كثيرا في الحقبة المظلمة الماضية، فأنا أريد أن تصفو القلوب... أريد أن تصفو قلوبنا

............

..الدقيقة 28..

واحنا ليه نعتبر أنفسنا شيئا والإخوان شيئا آخر؟! لماذا؟ لكن على كل حال أنا عن نفسي على استعداد بأن ننظم أنفسنا.. وإنما المسألة أننا انشغلنا بالتنظير دون الانشغال بالواقع العملي... يعني... أثمر سلبيات شديدة جدا... سلبيات... ... أتوقع بإذن الله تعالى... لأن هذه الثورة لما أنهت الحقبة المظلمة الأمور تغيرت يا إخواننا... الأمور تغيرت يعني امبارح بالأمس لما ذهبنا للاستفتاء يعني أحسسنا بمصر جديدة، واقرأ مقالة الأستاذ فهمي هويدي، فعلا ربنا يكرمه بيقول لك اللي حصل دا إيه؟ من علامات الساعة الصغرى؟! الجماعة المحظورة هي الموجودة في الواقع الآن والناس اللي كانوا بيقولوا الجماعة المحظورة وراء القضبان يحاكمون! إيه اللي بيحصل دا بالضبط؟!

............

__________________

المرجع: "أسئلة فقهية متنوعة - المجلس الثاني" درس بتاريخ 20 مارس 2011م من سلسلة: فتاوى العزيز بالله 1432 هـ - الشيخ الدكتور محمد عبد المقصود.

الأحد، أبريل ١٧، ٢٠١١

تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية...

بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، وتَفْرَقُ من صداها، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4]، {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96].

هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيراً ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون.

 وإنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه والسلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون، ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله، كم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، وخنع، وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به، أو ناطها الناس ... ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هَيِّنٌ هَيِّن، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل، السادة الذين لهث في إثرهم، ووَصْوَصَ بذنبه لهم، ومرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء!

كم من رجل كان يملك أن يكون شريفاً، وأن يكون كريماً، وأن يصون أمانة الله بين يديه، ويحافظ على كرامة الحق، وكرامة الإنسانية، وكان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئاً، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، وأن يحرس الحق، وأن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، وضعف عن تكاليف الكرامة، وتجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، وذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، ورخص عند من كانوا يحاولون شراءه، رخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نُبِذَ كما تُنْبَذُ الجيفة، وركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يَعِدُونه ويمنونه يوم كان له من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة، ومن الأمانة ملاذ.

كثير هم الذين يَهْوُونَ من القمة إلى السَّفْح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد، ولا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هَوَوْا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مَهَاوي الضلال، ومع تكاثر العظات والتجارب فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية، ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله والناس، وتضحي بالأمانة وبالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، وتلهث في إثر المطمع والمطمح، وتلهث وراء الوعود والسراب ..... ثم تَهْوِي وتَنْزَوِي هنالك في السفح خَانِعَةً مَهِينَة، ينظر إليها الناس في شماتة، وينظر إليها السادة في احتقار.

 لقد شاهدتُ في عمري المحدود - ومازلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تُبْهِظ  كواهلهم، وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتُنَكِّس رؤوسهم.... ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا والآخرة، ويَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد.

لقد شاهدتهم وفي وسعهم أن يكونوا أحراراً، ولكنهم يختارون العبودية، وفي طاقتهم أن يكونوا أقوياء، ولكنهم يختارون التخاذل، وفي إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، ولكنهم يختارون الجبن والمهانة .... شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهماً، وهم يؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، ويستظلوا بجاهه أو سلطانه، وهم يملكون أن يَرْهَبَهم ذوو الجاه والسلطان! لا ، بل شاهدت شعوباً بأَسْرِها تُشْفِقُ من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات، ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، ولا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها، وقديماً قالت اليهود لنبيها {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة : 24] فأَدَّتْ ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال، وتذلها الغربة، وتشردها المخاوف.... وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجال.

إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، وتؤديها الجماعات، وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية، والتجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، ولا فكاك.

فإلى الذين يَفْرَقُونَ من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، ويخونون كراماتهم، ويخونون إنسانيتهم، ويخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر وتتخلص.

إلى هؤلاء جميعاً أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ، وفي عبر الواقع القريب، وأن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، وأن الذين لا يَرْهَبُون الجاه والسلطان يَرْهَبُهم الجاه والسلطان.

ولدينا أمثلة كثيرة وقريبة على الأذلاء الذين باعوا الضمائر، وخانوا الأمانات، وخذلوا الحق، وتمرغوا في التراب ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله، ملعونين من الناس، وأمثلة كذلك ولو أنها قليلة على الذين يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا، ويأبون أن يبيعوا رجولتهم، وقد عاش من عاش منهم كريماً، ومات من مات منهم كريما.

__________________

المرجع: "ضريبة الذل (يا ليت قومي يعلمون)" مقالة بتاريخ 1952م - الشيخ سيد قطب (ت: 1386هـ  - 1966م) على موقع الدرر السنية http://www.dorar.net/art/764.

الأربعاء، ديسمبر ٠١، ٢٠١٠

كونوا قوامين لله... شهداء بالقسط... ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا...

في صحيح البخاري (كتاب الإيمان - باب إفشاء السلام من الإسلام) عن عمار بن ياسر قال: ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ.

- أعترف بأنني كثير التكرار لهذا الأثر الجميل، لقد شدني التعبير المباشر عن مبدأ الإنصاف الذي جاءت به الشريعة، وخاصة الإنصاف من النفس.

إن القدرة على الحياد بين المتخاصمين لهي شيء أشبه بالمستحيل، إلا لمن اختارهم الله ورزقهم كمال العلم والتقوى والعقل.

أما الإنصاف من النفس فأمر وراء ذلك، أنى يقع لإنسان أن يتجرد من ذاتيته وأنانيته وخصوصية نفسه ليجعل موقفه من نفسه ومن الآخر المختلف معه متساوياً، وعلى ذات المسافة!؟

حين تتأمل تجد دعوة إلى الترقي والمجاهدة الأخلاقية للفرد يعز نظيرها.

وأفهم من الأثر معنى آخر، وهو الإنصاف مع من ينتمي إليهم الإنسان، من جماعة أو حزب أو قبيلة أو شعب أو مدرسة حركية أو فكرية، أو مجموعة اقتصادية أو.. أو..

حين تخطئ أنت تنظر إلى خطئك على أنه استثناء، وأن لديك صواباً كثيراً، وتنظر إلى قدْر من حسْن نيتك وسلامة مقصدك في الخطأ، وتحيطه بما يهوّنه أو يخففه، وتتبعه بالاستغفار والأعمال الصالحة الظاهرة والخفية بما ترجو معه زوال أثر الذنب أو المعصية أو أن تكون عاقبته خيراً.

أما حين يخطئ الآخرون، فأنت تعرف الخطأ فقط، لكن لا تكلف نفسك تصور ما وراءه من دوافع أو مقاصد أو نيات، وما يصاحبه من أعمال صالحات، ولا ما يتبعه من توبة واستغفار وندم وانكسار.

وحين يخطئ فرد في جماعتك أو حزبك أو قبيلتك أو مجموعتك الفكرية والحركية؛ تعرف جيداً أن هذا خطأ فرد لا يتحمل مسؤوليته غيره، وأن الآخرين عاتبوه وصححوه، وأن حدوث خطأ من فرد ما معتاد، وتسوق نصوصاً صحيحة صريحة من مثل قوله تعالى: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39، 38).

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَلاَ لاَ يَجْنِى جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ..» رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي وأحمد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وتستميت في تقرير هذا المعنى، وتعد من يتجافى عنه أو يصم أذنه عن سماع حجتك متحاملاً أو متعصباً أو مغرضاً، وهو كذلك.

على أنك حين تظفر بخطأ فرد واحد من جماعة أخرى متباعدة عنك ولا تشعر نحوها بالدفء والانتماء يسهل عليك تعميم الخطأ، واعتباره معبراً عن رأي الجميع، وأنه رأس جبل الجليد، أو نتيجة رضا وموافقة، أو على الأقل هو بسبب تربية وتلقين تلقاها هذا المخطئ في محاضن جماعته أو حزبه أو قبيلته أو مدرسته الفكرية أو شركته التجارية، فلا مناص لهم من تحمل التبعة كلها أو بعضها.

وستعدّ دفاع المدافعين وتنصل المتنصلين تهرباً من تحمل المسؤولية، وذراً للرماد في العيون، فأين الإنصاف إذاً؟!

إنها مقامات من التجرد والمكاشفة مع الذات لا تحصل إلا بتوفيق من الله، وطول مجاهدة، واستعداد دائم لمراقبة النفس، ومراقبة الأتباع والموافقين وعدم الانجرار وراء حالة الاصطفاف والتخندق التي تعمي عن الحق، كما قيل:

وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ    وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا

ولذا أوصى الله تعالى المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (النساء: من الآية135)، فأمر بالشهادة على النفس والقريب.

وفي موضع آخر قال -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (المائدة: من الآية8)، فأوصى سبحانه ألا يحملنا العداء والبغض -أياً كان سببه حتى لو كان دينياً- على أن نظلم أو نجور، وهذه وصية القرآن للمؤمنين.

وفي الأثر: «يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع (أو الجذل) في عينه» رواه البخاري فى الأدب المفرد وابن حبان والبيهقي في الشعب.

ومعناه: أن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفّر على تدقيق النظر في عيب أخيه , فيدركه مع خفائه , ولو كان كأقلّ ما يقع في العين من القذى , فيعمى به عن عيبٍ كبيرٍ ظاهرٍ لا خفاء به في نفسه, ولو كان كجذع النخلة!

-كم منا من سيقف أمام نفسه ويحاكمها ويحاسبها بدلاً من أن يمضي في سبيله مؤمناً بأنه هو الحق ومن عداه الباطل وهو الهدى ومن عداه الضلال.

اللهم بصّرنا بعيوبنا ومواطن الضعف في نفوسنا.

__________________

المرجع: "أنصف" مقالة بتاريخ السبت 14 ذو الحجة 1431 الموافق 20 نوفمبر 2010 - الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة.

السبت، أكتوبر ١٦، ٢٠١٠

كونوا رحماء بينكم، وعودوا لهدي السلف!‏

...

إن كل أسباب الفرقة والاختلاف تَمَهَّدَت لهم لكنهم كانوا أَبْعَدَ الخلق عنها وأَفْرَقَ الناس منها، وهم وإن حصل بينهم أصل الخلاف إلا أنهم لم يتركوه لِيَسْتَفْحِل في دينهم وينال من عقيدتهم، فما وُجِدَ إجماع أمْكَنَ ولا أَصْلَبَ من إجماعهم على المعتقد، لقد تنازعوا في الفروع وعذر بعضهم بعضا، لكنهم في الإيمان تأصَّلَتْ جذورهم واسْتَفْحَل تعصُّبُهم وتعاظمت حَمِيَّتُهُم فما جَرُأ أحد على القرب من حِمَاه والنَّيْلِ من حَرِيْمِه.

هذا وقد لاحظ سلفُنا الصالح أمرا ظاهرا في تصرفات الرعيل الأول من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر المعتقد وعليه بنوا أصل الاعتقاد، وهو أن ما تقرر في النص وجب اعتمادُه، وما سكت عنه النص وجب السكوتُ عنه، وبهذا السور الحصين بنوا سِياج العقيدة وعلى أُطُمِه دافعوا وردوا على المخالفِ ابتداعَه ونطقه بما سكتوا عنه.

...

إن السلف رأوا أبا حنيفة يخطئ في بعض مسائل الإيمان فما كفروه ولا بدعوه ولا جعلوه رأسا من رؤوس الضلال وكُل ما يُروى عن بعضهم في أبي حنيفة في تبديعه وتضليله أو تكفيره فلا يصح ولا تقوم بمثله الحجة، فمن كان أَمْكَنَ وأَقْعَدَ في مسائل الإرجاء أخذ عنهم المحدثون والرواة والنقلة من أهل السنة ولم يجدوا الغَضَاضَةَ في نقل نصوص الشريعة عنهم بل وثَّقُوْهُمْ وزَكَّوْهُمْ وإن نبهُوا على ما وقعوا فيه من بعض البدع.

لقد خالط السلف من خرج على بعض أئمة الجَوْر كعبد الرحمن بن الأشعث وسعيد بن جبير واعتبروهم من أئمة الدين ونقلة الشريعة ولم يعتبروهم من كلاب النار أو من الخوارج الضلال.

...

وقد كان السلف يعظِّمون النصوص والآثار ويُقَدِّمُونها على آراء الرجال ويَسْتَقْبِحُون من يذكر أسماء الرجال معترضا ذكر الآيات والأحاديث، وينكرون على من يُقَلِّدُ دينَه الرجالَ ويُعرِض عن نصوص الوحي المعصوم.

لَكِنَّ الرَّزِيْئَةَ كُلَّ الرَّزِيْئَةِ أن ينتمي لهذا المنهج من يجعل المسكوت عنه  في حكم المنطوق به، بل يجعله من لُبَابِ المعتقد وحَقِيْقِ القول، ومثله من يتتبع زلات العلماء ليفضحهم ويشهِّر بهم ويخرجهم من المنهج السلفي، وكذا من جعل المنهج السلفي قرينا للمذهبية بل هي المذهبية الجديدة حين يُهدر النصوص والآثار لفتوى عالم معاصر من أهل السنة وينادي على المخالف بالابتداع والشذوذ لأنه يريد فهم النصوص والآثار بعيدا عن فهم شيوخه وعلمائه.

وقد رأينا من يقرأ حديث حذيفة رضي الله عنه المرفوع في الدعاة على أبواب جهنم ويَفهم منه أن المقصود به هم الجماعات الإسلامية العاملة لدين الله الباعثة لما اندثر من شرعه (وليس في شروح السلف ولا الخلف ما يشير إليه ولو من طَرْفٍ خَفِيّ)، فيَجْزم بهذا المعنى ضَرْبَة لازِبٍ، ويعتبره معتقدا من معتقدات السلف فيربط عليه معاقد الولاء والبراء، فمن فهم الحديث مثلَ فَهْمِه فهو السني السلفي القح، ومن تأوله على غير هذا فهو الحزبي المتستر المتخفي برداء السلفي وهو جدير أن يكون من أهل الأهواء الذين الرَّدُّ عليهم أَرْجَى وأَعْظَمُ ثوابا من الرد على اليهود والنصارى، ومن الذين يجب الحَجْرُ عليهم وأَطْرُهم على الحق أَطْرَاً، كما يجب إقصاؤهم عن مناصب التدريس والإفادة وتحذير المسلمين من شَرِّهِمُ الوَبِيْل الذي فاق شر الحاكمين بغير شرعه والراضين بغير منهاجه!

وإِنْ تَعْجَبْ ؛ فاعْجَبْ مما يقول أدعياء المنهج في مَنْ يبذل كل رخيص وغال لدين ربه، بل ويبذل ماله وأهله وحياته لتقوم شريعة الله في أرضه، ويقضي نَحْبَه في سبيل ذلك كله، وتَسْبُرُ حياته فتجده على السنة في النَّقِيْرِ والقِطْمِيْر، لكنه عند هؤلاء المُتَنَطِّعِين المُتَكَلِّفِين يَعُدُّوْنَه من أهل الأهواء الذين يجب التحذير منهم ومحاربتهم واضطرارُهم لأَضْيَقِ الطريق، وأما مخالفوا ذلك الباذل المجاهد عَبَدَةُ الطاغوت والمتزلفون للصليبيين ومناصرو كل فَجْرَة وبِدْعَة وغَدْرَة في أمة الإسلام فيجب السمع لهم والطاعة والإخلاص لهم في المَنْشَطِ والمَكْرَه!

...

...اقرأ التدوينة كاملة...

__________________

المرجع: "سلسلة النصائح: أدعياء المنهج.. مصارحة ومناصحة" – تدوينة للشيخ رضا أحمد صمدي في مدونته "المجد للإسلام".

السبت، أغسطس ١٤، ٢٠١٠

مـغـزى الـحـيـاة

تدبرت كثيرًا في مسألة قيام الأمم، فلاحظت أمرًا عجيبًا، وهو أن فترة الإعداد تكون طويلة جدًّا قد تبلغ عشرات السنين، بينما تقصر فترة التمكين حتى لا تكاد أحيانًا تتجاوز عدة سنوات!! فعلى سبيل المثال بذل المسلمون جهدًا خارقًا لمدة تجاوزت ثمانين سنة؛ وذلك لإعداد جيش يواجه الصليبيين في فلسطين، وكان في الإعداد علماء ربانيون، وقادة بارزون، لعل من أشهرهم عماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله جميعًا، وانتصر المسلمون في حطين، بل حرروا القدس وعددًا كبيرًا من المدن المحتلة، وبلغ المسلمون درجة التمكين في دولة كبيرة موحدة، ولكن -ويا للعجب- لم يستمر هذا التمكين إلا ست سنوات، ثم انفرط العقد بوفاة صلاح الدين، وتفتتت الدولة الكبيرة بين أبنائه وإخوانه، بل كان منهم من سلم القدس بلا ثمن تقريبًا إلى الصليبيين!!

منحني بناء أمة الإسلام - التمكين في الأرض

كنت أتعجب لذلك حتى أدركت السُّنَّة، وفهمت المغزى.. إن المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله تعالى.. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وحيث إننا نكون أقرب إلى العبادة الصحيحة لله في زمن المشاكل والصعوبات، وفي زمن الفتن والشدائد، أكثر بكثير من زمن النصر والتمكين، فإن الله -من رحمته بنا- يطيل علينا زمن الابتلاء والأزمات؛ حتى نظل قريبين منه فننجو، ولكن عندما نُمكَّن في الأرض ننسى العبادة، ونظن في أنفسنا القدرة على فعل الأشياء، ونفتن بالدنيا، ونحو ذلك من أمراض التمكين.. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22، 23].

ولا يخفى على العقلاء أن المقصود بالعبادة هنا ليس الصلاة والصوم فقط، إنما هو في الحقيقة منهج حياة.. إن العبادة المقصودة هنا هي صدق التوجه إلى الله، وإخلاص النية له، وحسن التوكل عليه، وشدة الفقر إليه، وحب العمل له، وخوف البعد عنه، وقوة الرجاء فيه، ودوام الخوف منه.. إن العبادة المقصودة هي أن تكون حيث أمرك الله أن تكون، وأن تعيش كيفما أراد الله لك أن تعيش، وأن تحب في الله، وأن تبغض في الله، وأن تصل لله، وأن تقطع لله.. إنها حالة إيمانية راقية تتهاوى فيها قيمة الدنيا حتى تصير أقل من قطرة في يمٍّ، وأحقر من جناحِ بعوضةٍ، وأهون من جَدْيٍ أَسَكَّ ميت..

كم من البشر يصل إلى هذه الحالة الباهرة في زمان التمكين!!

إنهم قليلون قليلون!

ألم يخوفنا حبيبي عليه الصلاة و السلام من بسطة المال، ومن كثرة العرض، ومن انفتاح الدنيا؟!

فتنة المال

ألم يقل لنا وهو يحذرنا: "فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ" متفق عليه؟!

ألا نجلس معًا، ونأكل معًا، ونفكر معًا، ونلعب معًا، فإذا وصل أحدنا إلى كرسي سلطان، أو سدة حكم، نسي الضعفاء الذين كان يعرفهم، واحتجب عن "العامة" الذين كانوا أحبابه وإخوانه؟! ألم يحذرنا حبيبي عليه الصلاة و السلام من هذا الأمر الشائع فقال: "مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ" أبو داود و صححه الألباني و الوادعي؟!

هل يحتجب الفقير أو الضعيف أو المشرد في الأرض؟

لا.. إنما يحتجب الممكَّن في الأرض، ويحتجب الغني، ويحتجب السلطان.

إن وصول هؤلاء إلى ما يريدون حجب أغلبهم عن الناس، ومَن كانت هذه حاله فإن الله يحتجب عنه، ويوم القيامة سيدرك أنه لو مات قبل التمكين لكان أسلم له وأسعد، ولكن ليس هناك عودة إلى الدنيا، فقد مضى زمن العمل، وحان أوان الحساب.

إن المريض قريب من الله غالب وقته، والصحيح متبطر يبارز الله المعاصي بصحته..

والذي فقد ولده أو حبيبه يناجي الله كثيرًا، ويلجأ إليه طويلاً، أما الذي تمتع بوجودهما ما شعر بنعمة الله فيهما..

والذي وقع في أزمة، والذي غُيِّب في سجن، والذي طُرد من بيته، والذي ظُلم من جبار، والذي عاش في زمان الاستضعاف، كل هؤلاء قريبون من الله.. فإذا وصلوا إلى مرادهم، ورُفع الظلم من على كواهلهم نسوا الله، إلا من رحم الله، وقليل ما هم..

هل معنى هذا أن نسعى إلى الضعف والفقر والمرض والموت؟

أبدًا، إن هذا ليس هو المراد.. إنما أُمرنا بإعداد القوة، وطلب الغنى، والتداوي من المرض، والحفاظ على الحياة.. ولكن المراد هو أن نفهم مغزى الحياة.. إنه العبادة ثم العبادة ثم العبادة.

مغزى الحياة والتمكين في الأرض

ومن هنا فإنه لا معنى للقنوط أو اليأس في زمان الاستضعاف، ولا معنى لفقد الأمل عند غياب التمكين، ولا معنى للحزن أو الكآبة عند الفقر أو المرض أو الألم.. إننا في هذه الظروف -مع أن الله طلب منا أن نسعى إلى رفعها- نكون أقدر على العبادة، وأطوع لله، وأرجى له، وإننا في عكسها نكون أضعف في العبادة، وأبعد من الله.. إننا لا نسعى إليها، ولكننا "نرضى" بها.. إننا لا نطلبها، لكننا "نصبر" عليها.

إن الوقت الذي يمضي علينا حتى نحقق التمكين ليس وقتًا ضائعًا، بل على العكس، إنه الوقت الذي نفهم فيه مغزى الحياة، والزمن الذي "نعبد" الله فيه حقًّا، فإذا ما وصلنا إلى ما نريد ضاع منا هذا المغزى، وصرنا نعبد الله بالطريقة التي "نريد"، لا بالطريقة التي "يريد"!.. أو إن شئت فقُلْ نعبد الله بأهوائنا، أو إن أردت الدقة أكثر فقل نعبد أهواءنا!! قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43].

ولذلك كله فإن الله الحكيم الذي يريد منا تحقيق غاية الخَلْق، الرحيم الذي يريد لنا الفلاح والنجاح قد اختار لنا أن تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة، وأن تقصر فترة التمكين والقوة، وليس لنا إلا أن نرضى، بل نسعد باختياره، فما فعل ذلك إلا لحبه لنا، وما أقرَّ هذه السُّنَّة إلا لرحمته بنا.

وتدبروا معي إخواني وأخواتي في حركة التاريخ..

كم سنة عاش نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله ويتعب ويصبر، وكم سنة عاش بعد الطوفان والتمكين؟!

أين قصة هود أو صالح أو شعيب أو لوط -عليهم السلام- بعد التمكين؟! إننا لا نعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام، ومعاناة المؤمنين، ثم نصر سريع خاطف، ونهاية تبدو مفاجئة لنا.

لماذا عاش رسولنا عليه الصلاة و السلام إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ للفتح والتمكين، ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلاً؟!

وأين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام؟! وأين هو في حياة إبراهيم أبي الأنبياء عليه الصلاة و السلام؟!

إن هذه النماذج النبوية هي النماذج التي ستتكرر في تاريخ الأرض، وهؤلاء هم أفضل من "عَبَدَ" الله تعالى، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].

والآن بعد أن فقهت المغزى لعلك عرفت لماذا لم يعش عمر بن عبد العزيز إلا سنتين ونصف فقط في تمكينه، وأدركت لماذا قُتل عماد الدين زنكي بعد أقل من عامين من فتح الرُّها، وكذلك لماذا قُتل قطز بعد أقل من سنة من نصره الخالد على التتار في عين جالوت، وكذلك لماذا قُتل ألب أرسلان بعد أقل من عامين من انتصار ملاذكرد التاريخي، ولماذا لم "يستمتع" صلاح الدين بثمرة انتصاره في حطين إلا أقل من سنة ثم سقطت عكا مرة أخرى في يد الصليبيين، ولماذا لم يرَ عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين التمكين أصلاً، ولماذا مات خير رجال دولة الموحدين أبو يعقوب يوسف المنصور بعد أقل من أربع سنوات من نصره الباهر في موقعة الأرك.

إن هذه مشاهدات لا حصر لها، كلها تشير إلى أن الله أراد لهؤلاء "العابدين" أن يختموا حياتهم وهم في أعلى صور العبادة، قبل أن تتلوث عبادتهم بالدنيا، وقبل أن يصابوا بأمراض التمكين.

إنهم كانوا "يعبدون" الله حقًّا في زمن الإعداد والشدة، "فكافأهم" ربُّنا بالرحيل عن الدنيا قبل الفتنة بزينتها..

ولا بد أن سائلاً سيسأل: أليس في التاريخ ملك صالح عاش طويلاً ولم يُفتن؟! أقول لك: نعم، هناك من عاش هذه التجربة، ولكنهم قليلون أكاد أحصيهم لندرتهم! فلا نجد في معشر الأنبياء إلا داود وسليمان عليهما السلام، وأما يوسف -عليه السلام- فقصته دامية مؤلمة من أوَّلها إلى قبيل آخرها، ولا نعلم عن تمكينه إلا قليل القليل.

وأما الزعماء والملوك والقادة فلعلك لا تجد منهم إلا حفنة لا تتجاوز أصابع اليدين، كهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر وملكشاه وقلة معهم..

لذلك يبقى هذا استثناءً لا يكسر القاعدة، وقد ذكر ذلك الله تعالى في كتابه فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]. فالذي يصبر على هذه الفتن قليل بنص القرآن، بل إن الله تعالى إذا أراد أن يُهلك أمة من الأمم زاد في تمكينها!! قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].

تمكين الإسلام في الأرض

إنني بعد أن فهمت هذا المغزى أدركت التفسير الحقيقي لكثيرٍ من المواقف المذهلة في التاريخ.. أدركت لماذا كان عتبة بن غزوان رضي الله عنه يُقْسِم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعفيه من ولاية البصرة! وأدركت لماذا أنفق الصديق رضي الله عنه ماله كله في سبيل الله، وأدركت لماذا حمل عثمان بن عفان رضي الله عنه وحده همَّ تجهيز جيش العسرة دون أن يطلب من الآخرين حمل مسئولياتهم، وأدركت لماذا تنازل خالد بن الوليد رضي الله عنه عن إمارة جيش منتصر، وأدركت لماذا لم يسعد أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بولايته على إقليم ضخم كالشام، وأدركت لماذا حزن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه عندما جاءه سبعمائة ألف درهم في ليلة، وأدركت لماذا تحول حزنه إلى فرح عندما "تخلَّص" من هذه الدنيا بتوزيعها على الفقراء في نفس الليلة!!

 أدركت ذلك كله.. بل إنني أدركت لماذا صار جيل الصحابة خير الناس! إن هذا لم يكن فقط لأنهم عاصروا الرسول عليه الصلاة و السلام، بل لأنهم هم أفضل من فقه مغزى الحياة، أو قل: هم أفضل من "عَبَدَ" الله تعالى؛ ولذلك حرصوا بصدق على البعد عن الدنيا والمال والإمارة والسلطان، ولذلك لا ترى في حياتهم تعاسة عندما يمرضون، ولا كآبة عندما يُعذَّبون، ولا يأسًا عندما يُضطهدون، ولا ندمًا عندما يفتقرون.. إن هذه كلها "فُرَص عبادة" يُسِّرت لهم فاغتنموها، فصاروا بذلك خير الناس.

إن الذي فقِه فقههم سعِد سعادتهم ولو عاش في زمن الاستضعاف! والذي غاب عنه المغزى الذي أدركوه خاب وتعس ولو ملك الدنيا بكاملها.

إنني أتوجه بهذا المقال إلى أولئك الذين يعتقدون أنهم من "البائسين" الذين حُرموا مالاً أو حُكمًا أو أمنًا أو صحة أو حبيبًا.. إنني أقول لهم: أبشروا، فقد هيأ الله لكم "فرصة عبادة"! فاغتنموها قبل أن يُرفع البلاء، وتأتي العافية، فتنسى الله، وليس لك أن تنساه.. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].

وأسأل الله تعالى أن يفقهنا في سننه..

وأسأله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

__________________

المرجع: "مغزى الحياة" مقال بموقع قصة الإسلام – للشيخ الدكتور راغب السرجاني. (الرابط هــنــا).

 

 

السبت، مايو ٠٨، ٢٠١٠

أهل الإسلام والتفلت من ظاهر الالتزام جـ1‏

-       مقدمة :وفيها بيان سبب تأليف الرسالة، وأهمية معالجة الموضوع المطروق في الرسالة...

-       تمهيد

-       المبحث الأول: ظواهر التفلت:

1-  قلة ضبط اللسان.

2-  الاستماع إلى المعازف (الموسيقى).

3-  حلق اللحى.

4-  التهاون في النظر إلى النساء والخلطة بهن، وتهاون النساء في النظر إلى الرجال بدون داع.

5-  التهاون في شروط الحجاب وضوابطه.

6-  التدخين.

-       المبحث الثاني: أسباب التفلت من الالتزام:

1-  طول الأمد وقسوة القلب.

2-  وجود فتاوى مبيحة لهذا التفلت.

3-  الاستجابة للضغوط.

4-  ضعف التربية الأولى.

5-  عدم التنبه إلى موقع القدوة.

6-  ضعف التقوى وقلة الورع.

7-  الجهل بأحوال عظماء الإسلام وما كانوا عليه من التمسك العظيم بالالتزام.

8-  عجز كثير من علماء الإسلام عن مواكبة المستجدات.

9-  أحداث أمريكا الأخيرة

-       المبحث الثالث: علاج ظاهرة التفلت:

1-  تعميق الإيمان بالله تعالى واليقين بلقائه.

2-  تربية الناشئة على التمسك والالتزام.

3-  وضع الأهداف العظيمة.

4-  الحرص على بقاء العلائق الأخوية والحذر من العزلة.

5-  الإعراض عن الفتاوى الضعيفة أو الشاذة أو المرجوحة.

6-  استعمال الورع.

7-  تربية البنات على الحياء.

-        خاتمة.

-        المصادر والمراجع.

-       فهرست الموضوعات.

__________________

المرجع: فهرس "أهل الإسلام و التفلت من ظاهر الالتزام" – كتاب للشيخ الدكتور محمد بن موسى الشريف.