الأحد، مارس ٢٩، ٢٠٠٩

أهل السنة و أهل القبلة... جـ.2.ـ

9 - هم -الحديث عن أهل السنة- أكثر الناس ازدراءً للنفس في ذات الله، وأبعدهم عن ادعاء الكمال، لا يزكُّون أنفسهم بالشعارات وبالألقاب، ولا يستغنون عن الاتباع بالانتساب، بل يعلمون أن ليس بأمانيّهم ولا أمانيّ أهل الكتاب. وهم في جهادهم، ودعوتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتغليظهم على أهل البدع وسائر أمورهم يتقدمون ويتأخرون بمقتضى الدليل الشرعي، والمصلحة الدينية، ودافع النصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وليس بدافع الانتقام أو التشفي أو التشهير، يعاقبون أحبّ صديق لهم، ويعفون عن أعدى عدوٍّ لهم إذا اقتضى أمر الله ورسوله ومصلحة الإسلام ذلك. وهم يفرحون بتوبة التائب، ويقبلون عذر المعتذر، ويدعون بالهداية للعاصي؛ لأنه لا حظَّ لأنفسهم في شيء من ذلك، بل إنما يريدون وجه الله، ويحرصون على هداية خلق الله، ولا يحبون أن يعثروا على بدعة أو معصية ممن يخالفهم؛ لأن من فرح بذلك فقد أحب أن يُعصى الله، ومن أحب أن يُعصى الله فليس من الله في شيء. ويسترون عيوب المسلمين، ولا يتتبعون عوراتهم، ولا يذكرون أخطاء أهل العلم إلا لبيان الحق، وعلى سبيل الترجيح لا التجريح، ويلتمسون لهم العذر ما أمكن.

وقد كان بعض السلف يوصون الوعاظ والخطباء ألاّ يُفصّلوا ذنوب المسلمين ويشهروا عيوبهم على المنابر؛ حتى لا يشمت بهم أهل الكتاب والمشركون.

ويُدخَلَ في ذلك التشهير بالجماعات الإسلامية في أوساط أهل الإلحاد والبدع.

وكثير من الناس يحصرون (السُّنِّي) في المتمحض للسنة؛ الذي لم يقع منه خطأ ولا تأويل ولا جهل، ويقابلهم آخرون يظنون أن (المبتدع) هو من اجتمعت فيه أصول البدع، أو انتسب إلى ما أجمعت الأمة على أنها من فرق الضلال.

والحق أن البدع كسائر الذنوب: منها الكبير والصغير، والصريح والمشتبه، والعصمة من التلبس بها نادرة أو قليلة.

والمخالفة بالتأويل والخطأ والجهل سمة أكثر الخلق، ويجتمع في الواحد المعيَّن والطائفة الحرص الشديد على السنة مع الوقوع الصريح في البدعة، كما يتفق للكثير من أهل البدع إصابة السنة في بعض الأحوال والمقامات؛ وإنما العبرة بالأصول والمنهج في الجملة والعموم، والموفق من وفقه الله.

وعلى كل أحد اتهام نفسه، والتفتيش عن عيوبه، وتجديد إيمانه، وعلى الكافة التناصح في غير جفاء، وقبول الحق من أي مصدر جاء.

10 - وهم لا يمنعهم طلب الكمال عن الحكمة في التعامل مع واقع الحال، فيدعون إلى الحق كاملاً غير منقوص، وإلى الاتباع المطلق للرسول صلى الله عليه وسلم، ويقبلون من الناس التدرج في الأخذ بذلك والتفاوت فيه، وسيرته صلى الله عليه وسلم هي منهاجهم وقدوتهم في هذا وغيره.

11 - ومن ضاق علمه وقصر نظره عن الجمع بين التمسك بأصول السنة وبين التعامل الشرعي مع الأُمة ولا سيما المخالفون منها؛ فقد قصّر في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، كمن يظن أن المخالفين تسقط كل حقوقهم الشرعية، أو أن العدل معهم ضعف وتهاون، أو أن نصرة الدين لا تكون إلا من أهل الطاعة الثابتة والاتباع الكامل.

فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، لا سيما في حال المعارك؛ قتالية كانت أو عقدية أو سياسية.

ولهذا كان من أصول السنّة: (الجهاد مع كل برٍّ وفاجر)، وهذا الجهاد يشمل الجهاد الميداني، والجهاد السياسي، والجهاد العلمي والدعوي؛ ما دام المقصود منه النكاية في عدو الدين المستبين الذي لو تسلط؛ لكان ضرره أعظم من تسلُّط مَنْ تَنْقُصه شروط العدالة والاستقامة.

وقد جاهد كثير من علماء السلف مع جيوش الحجاج بن يوسف وكلهم لا يشكّ في طغيانه وظلمه، كما فرح أهل السنة بما فعل بعض الخلفاء والولاة بالمبتدعة، وإن كانوا في أنفسهم ليسوا على السنة المحضة؛ مثل المتوكل، و خالد بن عبد الله القسري؛ فالعبرة في هذا كلّه بنصرة الدين وإقامة الشريعة.

* و بالنظر إلى الواقع السياسي في بلاد المسلمين نقول:

إنه ينبغي التفريق بين من يدعو إلى الكتاب والسنة في الجملة وهو متلبس ببدعة أو انحراف فكري، و بين من يدعو إلى بدعته و فكرته الضالة.

وكلاهما يقع من أطراف المعارك السياسية في بلاد المسلمين، فإن قوماً اتخذوا البدعة حزباً سياسياً، و آخرين هم منتسبون لها في الأصل لكنهم يخالفون أولئك ويدعون إلى الإسلام جملة إما مستقلين وإما منضمّين تحت راية إسلامية عامة.

و هناك من كان على مذهب فاسد كالاشتراكية ثم استقام في الجملة و إن لم يعلم تفصيل ما أنزل الله، فيجب التفريق بينه و بين من لا يزال على اشتراكيته أو قوميته.. و نحو ذلك.

و التاريخ الإسلامي شاهد على أن الله تعالى نصر الإسلام على أعدائه من صليبيين و باطنية و مغول و غيرهم بأُناسٍ لم يكونوا من أهل السنة المحضة، لكنهم كانوا يقاتلون لنصرة الإسلام لا لإظهار البدع، و فرق بين هؤلاء و بين دول الخوارج و الروافض الباطنية و غيرهم التي قامت في شرق العالم الإسلامي و غربه، و قاتلت من خالفها من المسلمين لكي يدخل في بدعتها.

فالأحزاب الإسلامية في بلاد المسلمين: حين تواجه الروافض أو الاشتراكيين في معاركها القتالية أو السياسية؛ فهي من النوع الأول، فيجب مناصرتها على أحزاب البدعة والإلحاد، كما تجب مناصحتها للاستقامة على السنة المحضة، و ليس في الجمع بين هذين إشكال لدى أهل الفقه و البصيرة.

أما الاشتغال بعداوتها عن عداوة أهل البدعة و الإلحاد فهو عين الخطأ، و أعظم منه موالاة من يحكم بغير ما أنزل الله أو الأحزاب العلمانية و معاداة الأحزاب الإسلامية، فهذا لا يفعله إلا منافق صريح النفاق أو أعمى البصيرة لا فقه له و لا فكر، فهو كمن يبني كنيسة و يقفل المسجد بحجة أن المصلين لا يصلُّون على السنة، أو يدعو الناس إلى أكل الميتة و ترك ذبيحة أهل المعاصي، أو يفضل الجهل بقراءة القرآن على تلقيه من ماهر بالقراءة متلبس ببدعة، أو يتوضأ بالماء النجس تاركاً ما فيه شبهة!

وعلى من ينتسب إلى السنة أن يحذر من سيرة الخوارج و منهجهم في التعامل: فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب -رضي الله عنه- مستحلّين دمه، و تركوا النصراني مراعاة لذمته!! و كانوا يقاتلون أهل الإسلام و يَدَعُون أهل الأوثان، سَلِمَ منهم الروم و الترك و الدَيْلم، و لم يَسْلَم منهم كثير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم و التابعين لهم بإحسان و أئمة العلم و الإيمان.

و لا يشفع لهؤلاء الصنف من طلبة العلم ظنّهم أنهم وحدهم أهل السنة و الاستقامة؛ فإن هذا من أعظم أسباب التشبث بالهوى، و عمى القلب عن قبول الحق و التزام العدل، نسأل الله السلامة و العافية.

إن التعامل الحق مع أهل القبلة هو السبيل القويم لتوحيد الأمة؛ لأنه يعتمد على قواعد شرعية مستمدة من نصوص الوحي، وليس على مجرد المصلحة كما يظن كثيرون، وبيان هذه القواعد هو جزء من منهج أهل السنة والجماعة الذي لا تجتمع الأمة ولا تنتصر إلا بمقدار حظها من التمسك به.

* أيها الإخوة المؤمنون:

إن أعداء الله يكيدون لبلاد المسلمين شر كيد، و قد عزموا على أن يجعلوا المعركة الانتخابية القادمة حاسمة في انتصارهم؛ فعلى المسلمين كافة أن يقفوا صفاً واحداً في هذا الجهاد الكبير، وأن يرفضوا الخضوع لأعداء الله أو الركون إليهم، وأن يُعِدُّوا العُدة لمواجهتهم في كل ميدان، وأعظم العُدة بعد تقوى الله اجتماع الكلمة ووحدة الصف، وهذا في حدّ ذاته انتصار عظيم، [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4).

__________________

المرجع: "رسالة من القلب إلى إخواننا في اليمن" مقال بمجلة البيان العدد 181- للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي. (باختصار و تصرف يسير، مثل تغيير كلمة "اليمن" إلى " بلاد المسلمين "؛ فالعبرة في مقام كهذا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)

 

الثلاثاء، مارس ٢٤، ٢٠٠٩

أهل السنة و أهل القبلة... جـ.1.ـ

ما يتعلق بمنهج التعامل مع أهل القبلة:

1 - إن سبيل السنة والاتباع؛ كما هو أهدى السبل وأقومها هو كذلك أوسعها وأرحمها، وقد وَسِعَ السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار ومسلمي الأعراب، وبين هاتين المرتبتين من مقامات الإيمان ما لا يعلمه إلا الله (كما بيّن تعالى في سورة التوبة)، وأهل هذا السبيل السالكون له داخلون دخولاً أولياً في الأمة المصطفاة: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] (فاطر: 32)...إلخ.

فلا يشقى ظالمهم بالسير مع سابقهم وإن تأخر، بل يحمل بعضهم بعضاً، ويجبر بعضهم كسر بعض، وكلهم صائرون إلى حسن العاقبة: منهم من يدخل من أبواب الجنة الثمانية، ومنهم من يلازم باباً واحداً، ومنهم بين ذلك. ومنهم من يدخلها بالقيام مقام الأنبياء، ومنهم من يدخلها بتهليلة في ساعة صفاء، أو دمعة في جوف الليل، أو درهم وضعه في يد مسكين، أو غصن من الشوك أزاحه عن طريق المسلمين.

2 - وهم متنوعون في مواهبهم ومقاماتهم، متحدون في منهجهم وغاياتهم:

منهم المجاهد، والآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، والمفسّر والمحدّث واللغوي والشاعر، ومنهم العامة المطيعون لله ورسوله ولو لم يحملوا من العلم شيئاً.

فكل من لم يُفسد عليه أهل البدع فطرته فهو منهم على فطرة السنة، كالمولود على فطرة الإسلام الذي لم يهوِّده أبواه ولم يُنصِّراه أو يُمجِّساه.

وأهل السنة والاتباع يؤدون حقوق الأمة كما أمر بها الشرع، فإن الشرع في مقام المعاملة مع الله وأداء حقِّه علّق دخول الجنة والفوز باسم (الإيمان) كما في آيٍ كثيرة جداً من كتاب الله، ولكنه في مقام التعامل مع الناس علّق حقوق صيانة الدم والمال والعرض باسم (الإسلام)، فقال: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" [أخرجه: مسلم]، وقال: "حق المسلم على المسلم ست" [أخرجه: مسلم]، وقال: "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده" [أخرجه: البخاري]؛ فمن ثبت له اسم الإسلام ثبتت له هذه الحقوق، ولا تسقط إلا بيقين ولمصلحة الدين، بل إن الله تعالى سمّى الطائفتين المتقاتلتين مؤمنين تنبيهاً لثبوت حقهما على سائر المسلمين، فقال تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] (الحجرات: 10).

3 - وهم لا يُهْدرون الأحكام الثابتة والأصول الكلية لأجل الأحكام العارضة والوقائع العينية؛ فمن الأصول الكلية الثابتة بصريح الآيات والأحاديث الصحيحة: (وجوب اجتماع كلمة المسلمين)، ومن الأحكام العارضة: (هجر المبتدع أو الفاسق)، فما لم تكن المصلحة في ذلك راجحة فلا يصار إليه، وهو مما تتغير فيه الأحوال ويقبل تعدد الاجتهاد.

4 - وكلّ من صلّى صلاتهم، واستقبل قبلتهم، وأكل ذبيحتهم فهو منهم؛ له ما لهم، وعليه ما عليهم، وحسابه على الله، وسريرته إليه، لا تنقيب عن القلوب، ولا شقّ عن السرائر، ولا إساءة ظن، ولا غلّ على سابق بالإيمان، ولا تفريق للمسلمين بالألقاب والأسماء وإن كانت أشرف الأسماء، مثل "المهاجرين والأنصار"؛ لأنها إنما تقال على سبيل الثناء والتأليف أو التمييز والتعريف، فما أغنى عن المعتزلة تسميتهم أنفسهم بـ (أهل التوحيد والعدل)، ولا أغنى عن الصوفية دعواهم أنهم (أهل الولاية والقرب)، وقبلهم قالت اليهود و النصارى: [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه] (المائدة: 18).

5 - وهم يعدّون امتحان الناس بالولاء والبراء لطائفة أو معيّن من المحدثات التي زجر عنها السلف؛ فإن الموالاة والمعاداة تكون على الحقائق لا على الدعاوى والأسماء، وفي جماعتهم الصغرى قدوة لجماعتهم الكبرى؛ فكما أن الواجب هو أن يصلّوا كما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وأن يكون إمامهم من أهل السنة والاتباع؛ دون أن يمنعوا دخول أهل النفاق والمعاصي إلى المسجد وصلاتهم بصلاة أهل السنة، فكذلك يجب أن يكون اجتماعهم العام على السنة بمفهومها الواسع العميق، ولا يمنع ذلك أن ينضم إليهم في نصرة الإسلام ومعاداة أعدائه مَنْ هو متلبس ببدعة أو مقيم على معصية، لكنهم يجتهدون في دعوة هؤلاء إلى الاستقامة مثلما يُعلّم الإمام جماعة المسجد كيف يؤدون الصلاة صحيحة، وهذا خير من أن يستقل أهل المعصية بمسجد وإمام، ويكون بين المسجدين عداوة وخصام.

6 - وهم أقوياء في الحق من غير غلوّ، ورحماء بالخلق من غير تهاون، وأشداء على أهل الضلال والبدع من غير عسف ولا جور، يأمرون بالمعروف بمعروف، وينهون عن المنكر بلا منكر.

7 - وهم يوفون الكيل والميزان بالقسط ولا يبخسون الناس أشياءهم، ويَزِنون الأمور بالعدل والحكمة، ويرتكبون أخف الضررين، ويجتنبون أكبر المفسدتين، ويصبرون على أهون الشرين، ويسلكون أقرب الطريقين، ويختارون أيسر الأمرين، يأوي إلى عدلهم المظلوم من كل أمة وطائفة، ويثق في علمهم طالب الحق من كل ملة ونِحْلة، فالعدل عندهم قيمة مطلقة؛ فإن الله تعالى جعله واجباً على كل أحد لكل أحد في كل حال؛ فهو قيمة مطلقة لا يحدها اختلاف الدين فضلاً عما هو أدنى من ذلك. قال تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا] (المائدة: 2)، و من لم يميز بين وجوب معاداة الكافرين والظالمين ووجوب العدل معهم، ويقيم الواجبَيْن معاً فليس من أهل الفقه في الدين والاتباع لسيد المرسلين الذي أوحى إليه ربه أن يقول: [وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ] (الشورى: 15).

8 - ومن حكمتهم في الدعوة: أن يظهروا محاسن الأئمة المتبوعين من أئمة العلم أو السلوك أو الدعوة، ويبينوا أن ما أوتوه من تعظيم وثناء إنما هو بسبب ما لديهم من اتباع للحق وجهاد من أجله، وأن ما نالهم من توفيق في دعوتهم فهو بسبب ما اتبعوا من السنة، ويجعلوا ذلك وسيلة لدعوة أتباعهم والمنتسبين إليهم إلى السنة والاتباع، ونبذ التعصب للمتبوعين، والعمل لنصرة الدين كما نصر أولئك الأئمة؛ وبذلك يجمعون بين العدل مع المتبوعين والدعوة الحكيمة للتابعين، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن الأئمة الأربعة وغيرهم كالأشعري، و عدي بن مسافر.

(يــتــبــع)

__________________

المرجع: "رسالة من القلب إلى إخواننا في اليمن" مقال بمجلة البيان العدد 181- للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي. (باختصار و تصرف يسير، مثل تغيير كلمة "اليمن" إلى " بلاد المسلمين "؛ فالعبرة في مقام كهذا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)

السبت، مارس ١٤، ٢٠٠٩

كلها في النار...إلا واحدة

عن معاوية بن أبي سفيان (و عن أنس أيضا) قال: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين و سبعين ملة، و إن هذه الملة ستفترق على ثلاث و سبعين، ثنتان و سبعون في النار، و واحدة في الجنة، و هي الجماعة). حديث صحيح. قال فيه الحاكم بعد سياقه لأسانيده: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح الحديث". و وافقه الذهبي. و قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: "هو حديث صحيح مشهور". و صححه الشاطبي في "الاعتصام"، و قد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني طرقه و تكلم على أسانيده، و بين أنه حديث صحيح لا شك في صحته (سلسلة الأحاديث الصحيحة).

و قد ذهب صديق حسن خان إلى أن الزيادة التي في الحديث و هي (كلها هالكة إلا واحدة) و مثلها: (ثنتان وسبعون في النار) زيادة ضعيفة، و نقل تضعيف ذلك عن شيخه الشوكاني و من قبله عن ابن الوزير و من قبله عن ابن حزم، و قد استحسن قول من قال: (إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة، فإن فيها التـنـفير عن الإسلام و التخويف من الدخول فيه) (يقظة أولي الاعتبار). و قال صديق حسن خان أن مقتضى الزيادة أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، و النصوص الصحيحة الثابتة تدل على أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير كثير، يبلغون نصف أهل الجنة. (يقظة أولي الاعتبار).

فأما اختصارا ... فالردَ على هذا يمكن تلخيصه من وجوه:

الأول: ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث و سبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار، لأن أكثر الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، و الذين افترقوا و قـعّـدوا و أصّـلوا مخالفين السنة قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله.

الثـانـي: ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من مسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بـهم الذين تـبَـنّـوا أصولاً تصيّـرهم فرقة مستقلة بنفسها، تركـوا من أجلها كثيراً من نصوص الكتاب و السنة، كالخوارج و المعتزلة و الرافضة، أما الذين يتبنون الكتاب و السنة و لا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون فرقة من الفرق.

الثـالـث: الزيادة دلت على أن الفرق في النار، و لكنها لم توجب لهم الخلود في النار.

ومن المعلوم أن بعض أهل هذه الفرق كفرة خالدون في النار، كغلاة الباطنية (كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم) الذين يُظِهرون الإيمان و يُبطنون الكفر.

و منهم الذين خالفوا أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة، و لكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، و لكنهم تحت المشيئة إن شاء الله غفر لهم، و إن شاء عذبهم، و قد تكون لهم أعمال صالحة عظيمة تنجيهم من النار، و قد ينجون من النار بشفاعة الشافعين، و قد يدخلون النار و يمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين و رحمة أرحم الراحمين.

و أما تفصيلا... فـقد رد الشيخ ناصر الدين الألباني على من ضعّف هذه الزيادة من وجهين:

الأول: أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعّـفها.

الثاني: أن الذين صححوها أكثر و أعلم من ابن حزم، لا سيما و هو معروف عند أهل العلم بتشدده بالنقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف إذا خالف!؟

و أما ابن الوزير فإنه يرد الزيادة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، و ما كان كذلك فلا ينبغي الجزم بفساد المعنى لإمكان توجيهه وجهة صالحة ينتفي به الفساد الذي ادعاه. و كيف يستطاع الجزم بفساد معنى حديث تلقاه كبار الأئمة و العلماء من مختلف الطبقات بالقبول و صرحوا بصحته، هذا يكاد يكون مستحيلا!

و الشيخ صالح المقبلي، قد تكلم على هذا الحديث بكلام جيد من جهة ثبوته و معناه، قال رحمه الله تعالى في كتابه "العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء و المشايخ" (ص 414): "حديث افتراق الأمة إلى ثلاث و سبعين فرقة، رواياته كثيرة يشد بعضها بعضا بحيث لا يبقى ريبة في حاصل معناها". ( ثم ذكر حديث معاوية هذا، و حديث ابن عمرو بن العاص الذي أشار إليه الحافظ العراقي و حسنه الترمذي).

ثم قال: "و الإشكال في قوله: "كلها في النار إلا ملة"؛ فمن المعلوم أنهم خير الأمم، و أن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود حسبما صرحت به الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة، و قال: هي زيادة غير ثابتة. و بعضهم تأول الكلام".

قال: "و من المعلوم أن ليس المراد من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة. إنما الكلام في مخالفة تصير صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها. و إذا حققت ذلك فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل، و فيما يترتب عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر، و لكنها لم تخص معينا من هذه الفرق التي قد تحزبت و التأم بعضهم إلى قوم و خالف آخرون بحسب مسائل عديدة".

ثم أجاب عن الإشكال بما خلاصته: "إن الناس عـامّـة و خـاصّـة..

فالعامة آخرهم كأولهم، كالنساء و العبيد و الفلاحين و السوقة و نحوهم ممن ليس من أمر الخاصة في شيء، فلا شك في براءة آخرهم من الابتداع كأولهم.

و أما الخاصة...

(القسم الأول): فمنهم مبتدع اخترع البدعة و جعلها نصب عينيه، و بلغ في تقويتها كل مبلغ، و جعلها أصلا يرد إليها صرائح الكتاب و السنة، ثم تبعه أقوام من نمطه في الفقه و التعصب، و ربما جددوا بدعته و فرعوا عليها و حملوه ما لم يتحمله، و لكنه إمامهم المقدم و هؤلاء هم المبتدعة حقا، و هو شيء كبير (تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا)، كنـفي حكمة الله تعالى، و نفي إقداره المكلف، و ككونه يكلف ما لا يطاق، و يفعل سائر القبائح و لا تقبح منه، و أخواتهن! و منها ما هو دون ذلك، و حقائقها جميعها عند الله تعالى، و لا ندري بأيها يصير صاحبها من إحدى الثلاث و سبعين فرقة.

(القسم الثاني): و من الناس من تبع هؤلاء و ناصرهم و قوى سوادهم بالتدريس و التصنيف، و لكنه عند نفسه راجع إلى الحق، و قد دس في تلك الأبحاث نقوضها في مواضع لكن على وجه خفي، و لعله تخيل مصلحة دنيئة، أو عظم عليه انحطاط نفسه و إيذاؤهم له في عرضه و ربما بلغت الأذية إلى نفسه. و على الجملة فالرجل قد عرف الحق من الباطل، و تخبط في تصرفاته، و حسابه على الله سبحانه، إما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله، أو يقبل عذره، و ما تكاد تجد أحدا من هؤلاء النظار إلا قد فعل ذلك، لكن شرهم و الله كثير، فلربما لم يقع خبرهم بمكان، و ذلك لأنه لا يفطن لتلك اللمحة الخفية التي دسوها إلا الأذكياء المحيطون بالبحث، و قد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة، و ليس بكبير فائدة أن يعلموا أن الرجل كان يعلم الحق و يخفيه. و الله المستعان.

(القسم الثالث): و من الناس من ليس من أهل التحقيق، و لا هيّء للهجوم على الحقائق، و قد تدرب في كلام الناس، و عرف أوائل الأبحاث، و حفظ كثيرا من غثاء ما حصلوه و لكن أرواح الأبحاث بينه و بينها حائل. و قد يكون ذلك لقصور الهمة و الاكتفاء و الرضا عن السلف لوقعهم في النفوس. و هؤلاء هم الأكثرون عددا، و الأرذلون قدرا، فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة، و لا أدركوا سلامة العامة. فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعا. و الثاني ظاهره الابتداع، و الثالث له حكم الابتداع.

(القسم الرابع): و من الخاصة قسم رابع ثلة من الأولين، و قليل من الآخرين، أقبلوا على الكتاب و السنة و ساروا بسيرها، و سكتوا عما سكتا عنه، و أقدموا و أحجموا بهما و تركوا تكلف ما لا يعنيهم، و كان تهمهم السلامة، و حياة السنة آثر عندهم من حياة نفوسهم، و قرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى، و فهم معانيه على السليقة العربية و التفسيرات المروية، و معرفة ثبوت حديث نبوي لفظا و حكما. فهؤلاء هم السنّـية حقا، و هم الفرقة الناجية، و إليهم العامة بأسرهم، و من شاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين، بحسب علمه بقدر بدعتهم و نياتهم.

إذا حققت جميع ما ذكرنا لك، لم يلزمك السؤال المحذور و هو الهلاك على معظم الأمة، لأن الأكثر عددا هم العامة قديما و حديثا، و كذلك الخاصة في الأعصار المتقدمة، و لعل القسمين الأوسطين، و كذا من خفَـت بدعته من القسم الأول، تنقذهم رحمة ربك من الانتظام في سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية، و رحمة ربك أوسع لكل مسلم، لكنا تكلمنا على مقتضى الحديث و مصداقه، و أن أفراد الفرق المبتدعة -و إن كثرت الفرق- فلعله لا يكون مجموع أفرادهم جزءا من ألف جزء من سائر المسلمين: فتأمل هذا تسلم من اعتقاد مناقضة الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة".

قلت (و الكلام للألباني): و هذا آخر كلام الشيخ المقبلي رحمه الله، و هو كلام متين يدل على علم الرجل و فضله و دقة نظره، و منه تعلم سلامة الحديث من الإشكال الذي أظن أنه عمدة ابن الوزير رحمه الله في إعلاله إياه. و الحمد لله على أن وفقنا للإبانة عن صحة هذا الحديث من حيث إسناده، و إزالة الشبهة عنه من حيث متنه. و هو الموفق لا إله إلا هو.

__________________

المرجع: "العقيدة في ضوء الكتاب والسنة - الجنة والنار" - للشيخ الدكتور عمر بن سليمان الأشقر. (باختصار و تصرف يسير)

المرجع: "سلسلة الأحاديث الصحيحة و شيء من فقهها و فوائدها" - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. (باختصار و تصرف يسير)