9 - هم -الحديث عن أهل السنة- أكثر الناس ازدراءً للنفس في ذات الله، وأبعدهم عن ادعاء الكمال، لا يزكُّون أنفسهم بالشعارات وبالألقاب، ولا يستغنون عن الاتباع بالانتساب، بل يعلمون أن ليس بأمانيّهم ولا أمانيّ أهل الكتاب. وهم في جهادهم، ودعوتهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتغليظهم على أهل البدع وسائر أمورهم يتقدمون ويتأخرون بمقتضى الدليل الشرعي، والمصلحة الدينية، ودافع النصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وليس بدافع الانتقام أو التشفي أو التشهير، يعاقبون أحبّ صديق لهم، ويعفون عن أعدى عدوٍّ لهم إذا اقتضى أمر الله ورسوله ومصلحة الإسلام ذلك. وهم يفرحون بتوبة التائب، ويقبلون عذر المعتذر، ويدعون بالهداية للعاصي؛ لأنه لا حظَّ لأنفسهم في شيء من ذلك، بل إنما يريدون وجه الله، ويحرصون على هداية خلق الله، ولا يحبون أن يعثروا على بدعة أو معصية ممن يخالفهم؛ لأن من فرح بذلك فقد أحب أن يُعصى الله، ومن أحب أن يُعصى الله فليس من الله في شيء. ويسترون عيوب المسلمين، ولا يتتبعون عوراتهم، ولا يذكرون أخطاء أهل العلم إلا لبيان الحق، وعلى سبيل الترجيح لا التجريح، ويلتمسون لهم العذر ما أمكن.
وقد كان بعض السلف يوصون الوعاظ والخطباء ألاّ يُفصّلوا ذنوب المسلمين ويشهروا عيوبهم على المنابر؛ حتى لا يشمت بهم أهل الكتاب والمشركون.
ويُدخَلَ في ذلك التشهير بالجماعات الإسلامية في أوساط أهل الإلحاد والبدع.
وكثير من الناس يحصرون (السُّنِّي) في المتمحض للسنة؛ الذي لم يقع منه خطأ ولا تأويل ولا جهل، ويقابلهم آخرون يظنون أن (المبتدع) هو من اجتمعت فيه أصول البدع، أو انتسب إلى ما أجمعت الأمة على أنها من فرق الضلال.
والحق أن البدع كسائر الذنوب: منها الكبير والصغير، والصريح والمشتبه، والعصمة من التلبس بها نادرة أو قليلة.
والمخالفة بالتأويل والخطأ والجهل سمة أكثر الخلق، ويجتمع في الواحد المعيَّن والطائفة الحرص الشديد على السنة مع الوقوع الصريح في البدعة، كما يتفق للكثير من أهل البدع إصابة السنة في بعض الأحوال والمقامات؛ وإنما العبرة بالأصول والمنهج في الجملة والعموم، والموفق من وفقه الله.
وعلى كل أحد اتهام نفسه، والتفتيش عن عيوبه، وتجديد إيمانه، وعلى الكافة التناصح في غير جفاء، وقبول الحق من أي مصدر جاء.
10 - وهم لا يمنعهم طلب الكمال عن الحكمة في التعامل مع واقع الحال، فيدعون إلى الحق كاملاً غير منقوص، وإلى الاتباع المطلق للرسول صلى الله عليه وسلم، ويقبلون من الناس التدرج في الأخذ بذلك والتفاوت فيه، وسيرته صلى الله عليه وسلم هي منهاجهم وقدوتهم في هذا وغيره.
11 - ومن ضاق علمه وقصر نظره عن الجمع بين التمسك بأصول السنة وبين التعامل الشرعي مع الأُمة ولا سيما المخالفون منها؛ فقد قصّر في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، كمن يظن أن المخالفين تسقط كل حقوقهم الشرعية، أو أن العدل معهم ضعف وتهاون، أو أن نصرة الدين لا تكون إلا من أهل الطاعة الثابتة والاتباع الكامل.
فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم، لا سيما في حال المعارك؛ قتالية كانت أو عقدية أو سياسية.
ولهذا كان من أصول السنّة: (الجهاد مع كل برٍّ وفاجر)، وهذا الجهاد يشمل الجهاد الميداني، والجهاد السياسي، والجهاد العلمي والدعوي؛ ما دام المقصود منه النكاية في عدو الدين المستبين الذي لو تسلط؛ لكان ضرره أعظم من تسلُّط مَنْ تَنْقُصه شروط العدالة والاستقامة.
وقد جاهد كثير من علماء السلف مع جيوش الحجاج بن يوسف وكلهم لا يشكّ في طغيانه وظلمه، كما فرح أهل السنة بما فعل بعض الخلفاء والولاة بالمبتدعة، وإن كانوا في أنفسهم ليسوا على السنة المحضة؛ مثل المتوكل، و خالد بن عبد الله القسري؛ فالعبرة في هذا كلّه بنصرة الدين وإقامة الشريعة.
* و بالنظر إلى الواقع السياسي في بلاد المسلمين نقول:
إنه ينبغي التفريق بين من يدعو إلى الكتاب والسنة في الجملة وهو متلبس ببدعة أو انحراف فكري، و بين من يدعو إلى بدعته و فكرته الضالة.
وكلاهما يقع من أطراف المعارك السياسية في بلاد المسلمين، فإن قوماً اتخذوا البدعة حزباً سياسياً، و آخرين هم منتسبون لها في الأصل لكنهم يخالفون أولئك ويدعون إلى الإسلام جملة إما مستقلين وإما منضمّين تحت راية إسلامية عامة.
و هناك من كان على مذهب فاسد كالاشتراكية ثم استقام في الجملة و إن لم يعلم تفصيل ما أنزل الله، فيجب التفريق بينه و بين من لا يزال على اشتراكيته أو قوميته.. و نحو ذلك.
و التاريخ الإسلامي شاهد على أن الله تعالى نصر الإسلام على أعدائه من صليبيين و باطنية و مغول و غيرهم بأُناسٍ لم يكونوا من أهل السنة المحضة، لكنهم كانوا يقاتلون لنصرة الإسلام لا لإظهار البدع، و فرق بين هؤلاء و بين دول الخوارج و الروافض الباطنية و غيرهم التي قامت في شرق العالم الإسلامي و غربه، و قاتلت من خالفها من المسلمين لكي يدخل في بدعتها.
فالأحزاب الإسلامية في بلاد المسلمين: حين تواجه الروافض أو الاشتراكيين في معاركها القتالية أو السياسية؛ فهي من النوع الأول، فيجب مناصرتها على أحزاب البدعة والإلحاد، كما تجب مناصحتها للاستقامة على السنة المحضة، و ليس في الجمع بين هذين إشكال لدى أهل الفقه و البصيرة.
أما الاشتغال بعداوتها عن عداوة أهل البدعة و الإلحاد فهو عين الخطأ، و أعظم منه موالاة من يحكم بغير ما أنزل الله أو الأحزاب العلمانية و معاداة الأحزاب الإسلامية، فهذا لا يفعله إلا منافق صريح النفاق أو أعمى البصيرة لا فقه له و لا فكر، فهو كمن يبني كنيسة و يقفل المسجد بحجة أن المصلين لا يصلُّون على السنة، أو يدعو الناس إلى أكل الميتة و ترك ذبيحة أهل المعاصي، أو يفضل الجهل بقراءة القرآن على تلقيه من ماهر بالقراءة متلبس ببدعة، أو يتوضأ بالماء النجس تاركاً ما فيه شبهة!
وعلى من ينتسب إلى السنة أن يحذر من سيرة الخوارج و منهجهم في التعامل: فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب -رضي الله عنه- مستحلّين دمه، و تركوا النصراني مراعاة لذمته!! و كانوا يقاتلون أهل الإسلام و يَدَعُون أهل الأوثان، سَلِمَ منهم الروم و الترك و الدَيْلم، و لم يَسْلَم منهم كثير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم و التابعين لهم بإحسان و أئمة العلم و الإيمان.
و لا يشفع لهؤلاء الصنف من طلبة العلم ظنّهم أنهم وحدهم أهل السنة و الاستقامة؛ فإن هذا من أعظم أسباب التشبث بالهوى، و عمى القلب عن قبول الحق و التزام العدل، نسأل الله السلامة و العافية.
إن التعامل الحق مع أهل القبلة هو السبيل القويم لتوحيد الأمة؛ لأنه يعتمد على قواعد شرعية مستمدة من نصوص الوحي، وليس على مجرد المصلحة كما يظن كثيرون، وبيان هذه القواعد هو جزء من منهج أهل السنة والجماعة الذي لا تجتمع الأمة ولا تنتصر إلا بمقدار حظها من التمسك به.
* أيها الإخوة المؤمنون:
إن أعداء الله يكيدون لبلاد المسلمين شر كيد، و قد عزموا على أن يجعلوا المعركة الانتخابية القادمة حاسمة في انتصارهم؛ فعلى المسلمين كافة أن يقفوا صفاً واحداً في هذا الجهاد الكبير، وأن يرفضوا الخضوع لأعداء الله أو الركون إليهم، وأن يُعِدُّوا العُدة لمواجهتهم في كل ميدان، وأعظم العُدة بعد تقوى الله اجتماع الكلمة ووحدة الصف، وهذا في حدّ ذاته انتصار عظيم، [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ] (الصف: 4).
__________________
المرجع: "رسالة من القلب إلى إخواننا في اليمن" مقال بمجلة البيان العدد 181- للشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي. (باختصار و تصرف يسير، مثل تغيير كلمة "اليمن" إلى " بلاد المسلمين "؛ فالعبرة في مقام كهذا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب)