السبت، مايو ١٧، ٢٠٠٨

هل الاختلاف نوع واحد و في مستوى واحد؟

المستوى الأول...

الاختلاف بين الحق و الباطل، و أهل الحق و أهل الباطل:

...الله تعالى يقيم الدلائل على الحق، يقيم المعالم التي يهتدي بها المهتدون، ينصر أولياءه و ينجيهم مع قلتهم و ضعفهم، و يخذل أعداءه و يخزيهم و ينزل بهم النكبات على كثرتهم، و في هذا تبصير للمستبصرين كما قال سبحانه: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 42).

جاءت هذه الآية في قصة بدر، فبنصره تعالى لنبيه و المؤمنين و هم قلة على أعدائهم، و هم كثرة و ذو عُدة و هالة، فيه آية يهتدي بها الموفقون، و يعمي عنها المعرضون الهالكون.

هذا الاختلاف هو اختلاف تضاد، يُحْمَد فيه أحد الفريقين و يَُذَم الفريق الآخر.

المستوى الثاني...

الاختلاف بين ملل الكفر و طرق الضلال:

ثُمَّ إنَّ أعداءَ الرسل بينهم اختلافات و لكن هذه الاختلافات لا يخرجون بها عن دائرة الضلال و الشقاء، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)، و قال تعالى: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) (الذريات:8،9).

كل هؤلاء المختلفين على باطل...

هذا الاختلاف لا يخرجها عن الذم، فكلها باطلة، و كلها مذمومة، و كلها سبل ضلالٍ، و إن كان بعضها أبعد عن الحق من بعض، فتكتسبُ مزيداً من الذم، و مزيداً من سوءِ المصير.

المستوى الثالث...

الاختلاف الخطير بين المنتسبين للإسلام (بين أهل السنة و الجماعة و غيرهم):

أما الداخلون في دائرة دين الرسل - في دائرة الإسلام - هؤلاءِ يجري بينهم اختلافات – باستبعاد المنافـقين الذين يبطنون الكفر -...

فالمؤمنون المسلمون الذين معهم أصل الإسلام، هؤلاءِ أيضاً يجري بينهم الاختلاف، و الاختلاف المعتبر هو الخلاف الذي يكون بين أهل العلم.

هذه الاختلافات منشؤها التفاوت في الاعتصام بكتاب الله و سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فكثيرٌ من المسلمين قد فرطوا في هذا الواجب، فتخبطوا في الظلمات، و تلقفتهم أيادي الأعداء من شياطين الإنس و الجن، فتدينوا بما لم يشرع الله، و اعتقدوا ما لم ينزل الله به من سلطان، و هذا يصدق على فرق الأمة، أهل الأهواء الذين ابتدعوا بدعاً اتخذوها ديناً: بدعاً اعتقادية، أو بدعاً عمليةً، فهم مختلفون فيما بينهم، و هم أيضاً مخالفون لأهل السنة و الجماعة...

هذا الاختلاف الخطير بين المنتسبين للإسلام جارٍ و دلّ عليه القرآن الكريم و السنة:

فالله أخبر عن افتراق الأمم الماضية كما في قوله تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (الشورى: من الآية14)، و قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105).و قوله: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة:4).

و الرسول أخبر عن ذلك كما في قوله - صلى الله عليه وسلم-: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) (أخرجه البخاري و غيره)، و أخبر به- صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور الذي قال فيه: (افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة، و افترقت النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) قيل: من هي يا رسول الله ؟ قال: (هي الجماعة) (صحت هذه الرواية من حديث عدة من الصحابة، وحديث الافتراق حديث صحيح رواة أكثر من ثلاثة عشر صحابياً، راجع السنة لابن أبي عاصم (1/32- 36) والشريعة للآجري (14-18) والسنة للآلكائي (99 - 104) والإنابة لابن بطة (1/366) والحجة للأصبهاني (1/ 106) فقد عقد هؤلاء باباً لذكر هذا الخبر وطرقه وتكلموا على متنه، وكذا أجاد الزبيري في تخريج هذا الحديث في تخريجه لإحياء علوم الدين فراجعه (النسخة المستخرجة 2982)

هذا الاختلاف هو اختلاف تضاد، و الحق فيه دائماً مع أهل السنة، فأهل السنة في الأمة المسلمة، كالأمة المسلمة في سائر الأمم، الحق كله في الأمة المسلمة، ثم إنَّ الحق كله و الصواب كله مع أهل السنة.

و كل من خالف أهل السنة في أمرٍ فهو منحرف عن الصراط المستقيم بقدر هذه المخالفة، كمّاً و كيفاً، فهذه الفرق بعضها أبعد عن الحق من بعض، و بعضها أقرب من بعض.

المستوى الرابع...

الاختلاف بين أهل السنة و الجماعة و بعضهم:

ثم إن أهل السنة أيضاً يقع بينهم اختلافات، و لكن مع الفرق بين اختلاف أهل السنة فيما بينهم و اختلافهم مع غيرهم، و اختلاف غيرهم بعضهم مع بعض...

فأهل السنة إن اختلفوا في شيء فإنه لا يكون في مسائل الاعتقاد ألبتة إلا في مسائل جزئية قليلة، و إنما اختلافهم في المسائل العملية...

هذا الاختلاف الذي وقع بين الصحابة و بين أتباعهم من أهل السنة و الجماعة نوعان:

النوع الأول: اختلاف تنوع، و ضابطه أنَّ كلاً من المختلفين مصيب.

... كما اختلف الصحابة في عهده- صلى الله عليه وسلم- في فهم قوله: (لا يصلينَّ أحد منكم العصر إلاَّ في بني قريظة) (أخرجه البخاري)

فصلى بعضهم في الطريق، و بعضهم آخر الصلاة - صلاة العصر - حتى جاء إلى بني قريظة، وقد يقال: إنَّ هذا من اختلاف التضاد الذي لم يبين فيه المصيب، لكن كل من المختلفين محمود لأنَّهُ اجتهد، فإنَّ اختلافَ التنوع كل من المختلفين فيه مصيب، وكل منهما محمود، ولعل المثال البيّن لهذا هو الاختلاف في القراءات من اختلاف التنوع، وكالاختلاف فيما أقرَّ الله عباده عليه من تصرفاتهم، كما في قوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) (الحشر:5).فهذا كله اختلاف تنوع لا يُذم فيه أحد من المختلفين، بل كل من المختلفين محمود، وكل من المختلفين على حق، وهؤلاءِ إنما يُؤتون إذا بغى بعضهم على بعض، وأنكر بعضهم ما عند الآخر، مع أنَّ كلاً منهما على الحق وكل منهما مصيب.

النوع الثاني: اختلاف تضاد، و هو نوعان:

الأول: اختلاف قام الدليل على تصويب أحد المذهبين، فهذا القولُ الذي وافق الدليل هو الحق و ما خالفه خطأ، و لكن حيث كان المختلفون مجتهدين فكل منهما محمود و مأجور، - و إن كان أحد من المختلِفين أو المختلفَين أفضل من الآخر.

الثاني: اختلاف لا يتبين فيه الصواب، و ليس هناك دليل يعتمدُ عليه لواحد من المذهبين، بل يكون منشأ القولين هو محض الاجتهاد، فهذا الاختلاف الذي إذا لم يعارض دليلاً شرعياً، و لم يُبْن أحد القولين على دليلٍ يعيّن أنه هو الصواب، فيبقى القولان سائغين، و كل من المختلفين محمود مأجور على اجتهادهِ، و الله أعلم بالصواب.

الخلاصة...

و بعد هذا العرض لتنوع الاختلاف، فيجبُ على المسلمِ أن يعتصم بحبل الله، فيتمسكُ بكتاب الله تعالى و سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- في العلم و في العمل، و في الحكم بين الناس، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58). و قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) (الأنعام: من الآية152).

__________________

المرجع: موقف المُسلم مِن الخلاف - للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك تحقيق عبد الله عائض القحطاني. (باختصار و تصرف يسير)

الخميس، مايو ٠١، ٢٠٠٨

هل الاختلاف قدر لا بد منه؟ و هل الاختلاف رحمة و خير، أم عذاب و شر؟

هل الاختلاف قدر لا بد منه؟

الاختلاف سنة كونية و قدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية، قال الله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.

...

و القدر الكوني إن كان شرا فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه و عدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، و مع ذلك واجب على كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدر شاء الله وقوعه كونا بناء على علمه باختيار الإنسان، فالله عز وجل وهب خلقه مشيئة و اختيارا خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم و كتابته له و تقدير كونه منهم.

...

فالخلاف قد يكون قدرا كونيا فيه شر، و لا يخلو من خير -فالله لا يخلق شرا محضا-، فلا يستسلم له العبد بل يقاومه بالقدر، فإن لم يُـزِلْـه خـَفّـف من آثاره و خرج بأقل أضراره.

*****

*******

*****

هل الاختلاف رحمة و خير، أم عذاب و شر؟

"رويت في ذلك أحاديث لا تـثـبـت مثل:

حديث «أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» (نقل الإمام ابن تيميه تضعيفه عن الأئمة في منهاج السنة 4 / 238، وقال الحافظ العراقي في مختصر المنهاج: إسناده ضعيف من أجل حمزة فقد اتهم بالكذب ص55، وقد حكم الألباني بوضعه في غير موضع انظر الضعيفة 58)

و حديث « اختلاف أمتي رحمة» (ذكر الألباني أنه موضوع لا سند له انظر ضعيف الجامع 230، وبداية السول ص19، وقد ذكر الحافظ العراقي أثر: اختلاف أصحابي لأمتي رحمة وحكم بأنه مرسل ضعيف، مختصر المنهاج ص60)

...

و مع عدم ثبوت نص، تباينت أقوال السلف في المسألة مثل:

عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، و أنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.

و عن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، و ما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا و يحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، و لا هذا على هذا.

و قال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف - من آثار الرحمة فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.

...

و هذه القاعدة ليست متفقا عليها...

...

فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، و إنما الحق في واحد.

وقال المزني صاحب الشافعي: ذم الله الاختلاف و أمر بالرجوع عنده إلى الكتاب و السنة.

...

و توسط ابن تيمية بين الاتجاهين، فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة، و قد يكون عذابا.

قال: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم، و الحق في نفس الأمر واحد، و قد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}، و هكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام و الثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالا لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة و قد يكون عقوبة، و الرخصة رحمة، و قد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد". (الموسوعة الفقهية 2 / 295-296 بتصرف يسير)

__________________

المرجع: الاختلاف في العمل الإسلامي: الأسباب والآثار - للشيخ الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر.